العبث بالتاريخ الانتخابي الاردني

23 نوفمبر 2021
العبث بالتاريخ الانتخابي الاردني

زهدي جانبيك

“حبي لنفسي قبل حبي لبلادي” … قالها ميكافيلي ، وللاسف اخذ بعض الجاحدون، طليقوا اللسان، الجشعون كما وصفهم سيدهم ميكافيلي بهذه المقولة حرفيا فشكلت انانيتهم مبررا ومسوغا لهم لتقديم مصالحهم الضيقة البشعة على مصلحة الوطن وديمومته، فاستحلوا الكذب في التاريخ لنشر الوهم في اذهان البعض {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}.

البشر ليسوا سواء بميولهم وتوجهاتهم ومصالحهم … وهذا شيء مفهوم اتقبله بصدر رحب في اطار ان الخلاف لا يفسد للود قضية، فقد تكون انت مؤيد لمسودة القانون الانتخابي الجديد واكون انا من معارضيه او العكس … ولكن هذا لا يبيح للبعض من الجهلة بتاريخ وطنهم ان يلوثوا جهاد ونضال الاجداد مهما كانت مبررانهم، …ولا يلجأ الى الكذب والخداع الا من كان بلا حجة وخالي الوفاض.

لا يجوز ابدا اللجوء الى الكذب عند سرد التاريخ بغية تحقيق اهداف آنية واثبات وجهات نظر او مطالب تتعلق بحاضرنا، اذ ان جميع الدلائل لغاية الان تشير الى ان ماضينا اكثر نقاء ونظافة من حاضرنا ، فلا تلوثوا الماضي الجميل بكذبكم وقبحكم مهما كان هدقكم فالغاية لا تبرر الوسيلة والحق لا يمكن تحقيقه من خلال نشر الباطل فلا تتحولوا الى شياطين ميكافيلي وسياسته التسلقية.

في القرن السادس عشر وقبل ان يتنعم الغرب بمبادئ الحضارة الاسلامية النبيلة خرج علينا فيلسوف ايطالي يدعى نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي في كتابه الامير بأسوأ مبدأ عرفه التاريخ البشري بحجة التنظير السياسي الواقعي فقال بان الغاية تبرر الوسيلة وكانت هذه احدى نصائحه للحكام لتطبيقه عند دخولهم في صراع على السلطة.

رجال الاردن الاوائل المناضلون المجاهدون في سبيل الحق والحرية لم يرضوا بمثل هذه الخزعبلات التي تحيد عن الحق والفضيلة، وتمسكوا بالقيم النبيلة لتحقيق مطالبهم وبناء الدولة الاردنية. ولذلك فان الشيخ المناضل علي نيازي التل عندما خاطب الملك عبدالله الاول في كتابه المفتوح عام 1928 لم ينافق ولم يكذب ولم يداهن بل كتب له:
(ان عَزلُ ابن راشد (الخزاعي) من الوظيفة، وحجزُ حريّة راشد (الخزاعي)، ونَفيُ عبد الرحمن الشَرايره، وإعلانُ الإدارةِ العرفيّة لا يُثني عَزمَ الأردنيّين عن حُقوقهم.)
واضاف : (إنّ المشانقَ لا تحولُ الشَعبَ عن اعتقادِه بأحقيّة مطاليبه العادلة، وأنّه سيثابرُ على خطّته السلميّة حتّى يصلَ إلى حقوقه).
ولم يكتب هذه الكلمات للمطالبة بمكاسب وميزات وخدمات … وانما للمطالبة بحقوق الاردنيين بالمساواة والديموقرطية.

الشيخ المجاهد الاستاذ المحامي شمس الدين سامي جراندوقة تم اسره من قبل الفرنسيين عام 1922 وهو يقاتل مع رفاقه المجاهدين الاردنيين، وخرج من سجنه في درعا بقوة السيف الاردني الذي اقتحم السجن لتحرير الرفاق، وما لبث ان اعتقله الانجليز لتحريضه عليهم عام 1923 على اثر مشاركته في ثورة ماجد العدوان وقد كان قبلها ضمن الفريق الذي وضع قانون الانتخاب الاول في الاردن في تموز عام 1923 الذي رفضه الانجليز واطاحوا باللجنة التي وضعته وهم:
الشيخ علي خلقي الشرايري، الشيخ علي نيازي التل، الشيخ شمس الدين بيك سامي جرندوقة، الشيخ محمد باشا الحسين العواملة، الشيخ سعيد باشا الصليبي الفواعير، الشيخ زعل بيك المجالي، الشيخ عبدالله العكشة، الشيخ علي باشا الكايد، ،الشيخ محمد العيطان الحرحشي الحسني، الشيخ ابراهيم جماعين المعايعة، الشيخ ابراهيم شويحات، الشيخ سعيد باشا خير.
وجل هؤلاء ان لم يكن كلهم تم سجنهم او نفيهم او وضعهم تحت مراقبة الشرطة او تجريدهم من رتبة الباشاوية ولم يثنهم ذلك عن متابعة النضال لتحقيق المساواة للاردنيين جميعا.

وعندما نجح الشيخ شمس الدين جراندوقة بالانتخابات لعضوية المجلس النيابي فيما بعد …رفض اتفاقية الانتداب البريطاني وانسحب من المجلس قائلا: “تبرئة لذمتي أنسحب من هذا المجلس.”…. هؤلاء هم الرجال .
هذه اللجنة الشعبية اجتمعت بتاريخ 14 تموز 1923 ووضعت لائحة انتخاب النواب في شرق الاردن التي صدرت بتاريخ 9 كانون اول 1932. وتتضمن 60 مادة قسمت الامارة الى 3 دوائر انتخابية هي:
1. دائرة عمان وتشمل مقاطعات عمان والسلط ومادبا ومركزها عمان.
2. دائرة اربد وتشمل مقاطعات اربد وجرش وعجلون ومركزها اربد.
3. دائرة الكرك وتشمل مقاطعات الكرك والطفيلة ومركزها الكرك.
وخصصت هذه اللائحة نائب واحد لكل 8 الاف ناخب من الذكور الذين بلغوا 20 عاما من العمر… على ان يكون المرشح من مواليد شرق الاردن واتم 30 سنة من عمره.
وقد صدرت الارادة الاميرية باتمام هذه اللائحة في العدد 29 من الجريدة الرسمية (الشرق العربي) تاريخ 17 كانون اول 1923 الصفحة 1 ، واما الانجليز المستعمرون فقد رفضوا هذا القانون الانتخابي لانه لا يحقق مصالحهم في الهيمنة على البلاد كما جاء في كتاب (الحركة الوطنية الاردنية) للدكتور السعدي ص 194. ويؤكد الدكتور الحياري في كتابه (القانون الدستوري) ص 512 صدور الارادة الاميرية بهذا القانون الانتخابي،…. وكذلك يؤكد ابو صوفة في كتابه (خريطة الحياة النيابية في الاردن) ان هذا القانون قد صدر وواففت عليه الحكومة واقترن بالارادة الاميرية وتم نشره كاملا في ملحق العدد 52 من الشرق العربي بتاريخ 4 ايار 1924.
وعلى سبيل المماطلة فقد تكرر فيما بعد تشكيل لجان عام 1926 وعام 1927 لوضع قانون معدل لهذا القانون الانتخابي وتم ذلك الا ان الحكومة اعتذرت عن اعتماده بحجة الحاجة الى دراسته على ضوء المعاهدة المزمع عقدها بين شرق الاردن وبريطانيا، واحنجت اللجنة الشعبية بشدة على هذه المماطلة.

من المعيب ان يتجرأ جاهل او موتور بالادعاء ان هذا القانون الانتخابي وضعه الانجليز متجاهلا عن قصد وسابق اصرار ان الذي وضع هذا القانون هم احرار الامة وتحملوا نتيجة اصرارهم عليه لاكثر من 5 سنوات كافة صنوف الحبس والعزل من الوظيفة والنفي والوضع تحت رقابة الشرطة والتجريد من الرتب …
من المعيب والمخجل ان يخرج من بين الاردنيين من يتجاهل نضال وتضحيات الاجداد المؤسسين الذين اصطدمت جهودهم باستمرار برفض الانجليز وعملائهم لجهود الاستقلال والارتقاء بالامة.

واما بعد ابرام المعاهدة البريطانية الاردنية كما ارادت السلطات وقتها …وتم اصدار الدستور الاردني لعام 1928 وتم وضع قانون انتخابات جديد…فقد تم بموجب هذا القانون الانتخابي الانجليزي تقسيم المملكة الى اربعة دوائر هي:
1. دائرة البلقاء ولها 6 مقاعد. منهم 2 للشركس و 1 للمسيحيين.
2. دائرة عجلون ولها 4 مقاعد. منهم 1 للمسيحيين.
3. دائرة الكرك ولها 3 مقاعد. منهم 1 للمسيحيين.
4. دائرة معان ولها مقعد واحد.
5. بدو الشمال مقعد.
6. بدو الجنوب مقعد.
وكانت هذه هي المرة الاولى بتاريخ الاردن التي يتم بها التمييز بين شركسي وعربي وبين بدوي وفلاح وبين مسلم ومسيحي،… وهذا القانون هو القانون الذي تفتقت عنه ذهنية الاستعمار الانجليزي البغيضة المبنية على مبدأ فرق تسد … وللاسف خرج علينا بهذه الايام العجاف …من يمتدح هذا القانون البغيض الذي لم يساوي بين الاردنيين ولم يعدل بين المحافظات خلاف ما يدعيه الجهلة الذين يدعون الخبرة والمعرفة وهم لا يزالون يخلطون بين الكوع والبوع …ولا يميزون الطيط من الغيصلان.

الواقع المثبت تاريخيا ان احرار الاردن انتفضوا احتجاجا على المعاهدة ورفضوا قانون الانتخاب رفضا قاطعا، وعمت المظاهرات والاحتجاجات كافة مناطق الامارة وقد توج الاحرار نضالهم هذا بعقد المؤتمر الوطني الاول في تموز 1928 وانتخبوا لجنته التنفيذية لقيادة النضال…. ووجهوا الى الحكومة والانتداب الانجليزي والامم المتحدة رسائل احتجاج ورفض للمعاهدة البريطانية ولقانون الانتخابات اللئيم.

فبدأت الحكومة بالتنكيل بهم: فابعدت حسين باشا الطراوونة الى الكرك وقطعت مخصصاته، وجردت راشد باشا الخزاعي من لقب الباشاوية، وفصلت القاضي ابراهيم قطيش وفرضت الاقامة الجبرية على طاهر الجقة ومنعت 4 صحف (الانباء والاردن والشريعة وصدى العرب) من الصدور …ومنعت دخول الصحف العربية الى الاردن… لانهم رفضوا المعاهدة ورفضوا قانون الانتخابات الاعوج الذي مزق الاردن.

ولكن اجمل ما تمت كتابته من اعتراض على قانون الانتخاب ما جاء في الرسالة المفتوحة التي ارسلها علي نيازي التل الى الملك عبدالله الاول واتبعها برسالة ثانية الى الحكومة وقال فيها واصفا قانون الانتخاب:
“ان قانون الانتخابات يقسم شرق الاردن الى اربع منطق انتخابية معان، الكرك، البلقاء، عجلون… ثم يفرق الاهلين الى مسلم ومسيحي وشركسي وعرب رحل….ويحدد ممثلي هذه الاقسام بنسبة لا تأتلف مع مقدار عدد النفوس…” انتهى الاقتباس. وجاء كتابه هذا من خلال عضويته في اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني….

ثم يأتينا احدهم ويخترع من الاكاذيب ما يشوه صورة النضال المشرق لصفوة المؤسسين الاردنيين وينسب ما ناضلوا من اجله من العدل والمساواة الى المحتل الانجليزي … شلت يمين من كتب مشككا بنضال نخبة المؤتمر الوطني الاردني الاول … وشلت يمين كل من صفق له….