حسنا فعل “المهرجان”: لقد كشفنا

27 سبتمبر 2021
حسنا فعل “المهرجان”: لقد كشفنا

حسين الرواشدة

ما فعله مهرجان جرش، هو أنه كشفنا، فنحن؛ المجتمع والحكومات، وجهان لعملة واحدة من الانتقائية “والشيزوفرينيا”، نتحرك بمنطق ” العناد” المتبادل، ‏ونتربص ببعضنا لنباشر عملية “تكسير العظام” تحت لافتة الاختلاف، نحن نترك كل القضايا والأولويات الكبرى (الصحة، التعليم، المياه) ونغرس اقدامنا وأسناننا في مسألة هامشية، وننفخ فيها حتى تتحول إلى “معركة” ننشغل بها يومين أو ثلاثة، ثم نعود لممارسة أعمالنا كالمعتاد، ونجلس نتلاوم على مقاعد المتفرجين.
‏مرايا المهرجان عكست صورتين: صورة “الرسمي” الذي حمل منذ أكثر من سنة ونصف “عصا” قانون الدفاع، ورفعها في وجه المجتمع لحمايته من الوباء، ‏وقتها انصاع الجميع للأمر، تحت عنوان واحد، وهو مصلحة البلد، وفي الذاكرة الشعبية ما لا يحصى من مشاهد ومواقف عن تعليمات التباعد والكمامات ومحاسبة غير الملتزمين، وإقالة الوزيرين ورفع القضايا ودفع الغرامات، حتى جاء مهرجان جرش فانكسر أمامه القانون، وتبخرت بروتوكولات الوقاية والتزم المعنيون بالصمت.
الصورة الأخرى، هي صورة “المجتمع” والناس، ‏هؤلاء بالطبع أصناف منهم الذين احتشدوا بعشرات الآلاف وازدحمت بهم المدرجات بلا تباعد ولا كمامات، وقد كانوا في وقت مضى يصرخون في وجوهنا لنأخذ حذرنا من الفيروس، ويذكروننا بالأعزاء الذين رحلوا، ومنهم الذين وقفوا ضد إقامة المهرجان بذريعة الوباء بعد ان ازدحمت بهم الشوارع حين دعوا للاعتصامات أو شاركوا في الجنازات في “عز” انتشار كورونا، ومنهم الذين احتفوا بنجوم الطرب واعتبروا ان قيم المهرجان جزءا من قيم الدولة، نكاية بخصومهم السياسيين، ومنهم جمهور عريض من “المتدينين” الذين اختزلوا الحرام في إقامة مهرجان، وأغمضوا عيونهم عن الحرام الأكبر الذي تراكم مع غياب العدالة وانتشار الفساد.
من بين أعمدة المهرجان خرج خاسرون ورابحون، ‏قائمة الرابحين توزعت بين “نجوم الطرب” الذين احتفت بهم الجماهير وشيعتهم بالتصفيق، وبين الباحثين عن لحظة فرح عابرة في عالم اختنق في سجن كورونا، وبين متعهدي الحفلات الذين أخذوا نصيبهم من عوائد المهرجان، والآخرين الذين وجدوا في المهرجان فرصة لقراءة قصة او قصيدة، أو لقاء مع الأصدقاء، كما انضم إلى أولئك الرابحين “الجو العام” الذي سقطت عنه فزاعة الوباء، وتراجعت اصوات التخويف فيه، فاستعاد هدوءه بعد طول اضطراب.
اما قائمة الخاسرين فتوزعت على عدة عناوين، ابرزها” الثقة” التي كنا نتدافع منذ سنوات لاستعادتها، ثقة المجتمع بالحكومات والقوانين والمقررات، وثقته أيضا بنفسه وبتنوع خيارات من يعيش فيه، ‏ومن الخاسرين أهل جرش الذين لم ينالوا من خيرات المهرجان إلا اسمه وصدى الأصوات التي غردت فيه، فيما الأصل أن يستثمروا فيه ليكون مصدرا لإنعاش وتنمية مجتمعهم الصغير، ومن الخاسرين أيضا بروتوكولات الصحة والوقاية وخطط التعافي التي ارتكزت على التزام الناس بالتباعد، وأخذ ما يلزم من إجراءات السلامة، هذه لن تجد من يسوقها للناس بعد ما رأوا من ازدحام، ولا من يقتنع بها.
قد نكون أخطأنا في حق جرش، وفي معرض الكتاب، وربما في المولات والشارع أيضا، لكن فضيلة ما حدث أنه كشفنا: في مراياه رأينا – او هكذا يفترض– صورتنا، كيف نفكر، وكيف نقرر ونختلف، وكيف نتبادل المواقف وندير الجدل بيننا، ورأينا أيضا تشكيلة مجتمعنا وتنوعه، ونظرته الى الحياة: نحن لا نشبه بعضنا ولسنا نسخا مكررة، ولا توجد وصفة واحدة لحياة طيبة وجميلة وسعيدة لكي نوزعها على بعضنا، هكذا يجب أن ننظر الى الأشياء ونتقبل اختلافاتنا حولها دون اتهامات وإصدار أحكام، وبدون أن نشهر في وجوه بعضنا السيوف، باسم الدين او الوطنية، او باسم الفن والقبح والجمال.
‏حسنا فعل المهرجان: لقد كشفنا، ومنحنا الفرصة لرؤية واقعنا كما هو بلا مكياج، وحسناً حصل حين توزعنا على قوائم الرابحين والخاسرين، لكن الأحسن من ذلك أن نخرج من هذا الإطار الذي وضعنا أنفسنا فيه، مجتمعا وحكومات، إطار المعاندة والمكايدة واحتكار الصواب والإصرار على الخطأ، والتذاكي على الناس وتصدير الثقة بلا رصيد، لنتذكر فقط أن “جرشو” كما سماها العرب الساميون هي ذاتها “جراسيا” بلغة الإغريق والرومان، وجرش بنسختها العربية الأخيرة، ظلت كما هي شاهدة على أن هذا العالم (كما الوطن) يتسع للجميع، ويبحث عمن يترك بصمته عليه بالإنجاز والعمل لا بالصراعات والمشاحنات وتصفية الحسابات.