القيم والذكاء العاطفي والقيادة

6 سبتمبر 2021
القيم والذكاء العاطفي والقيادة

بقلم الدكتور محمود المسَّاد
مدير المركز الوطني لتطوير المناهج

مكونات العنوان هي سمات وخصائص لازمة كمتطلبات لخلق البيئة الحاضنة لتنمية القيم وتطويرها من جهة، واذكاء التفاعلات التربوية والتعلمية بفعل قيادي في الجوانب المختلفة لتحقيق التعلم النشط من جهة أخرى فقد بات من المعروف أن القيادات الناجحة والفعّالة هي الأقدر على تحقيق الإنجازات على مستوى الأفراد وعلى مستوى المؤسسات، لا بل على مستوى الدول. مع أن القائد والقيادات يتراوحون في تحقيقهم الإنجازات بين مستويات متدنية وأحياناً كارثية، وبين مستويات عالية وأحياناً متفوقة تُدهش المتابعين

ومما لا شك فيه أن هناك مفاصل فارقة تميز القيادة الملهمة عن غيرها، وتجعل من إنجاز أعضائها على مستوى أي مؤسسة علامات يشير إليها بإعتزاز ودهشة كل المتابعين، حيث ترتبط أي المفاصل الفارقة بقوة بالإنجاز المتفوق، والحرفية في الأداء. فالاحترام كقيمة جامعة مترسخة تحرك كوامن كثيرة من مثل : الإندفاع للعمل لحد الشغف، والإثارة التي تلازم التفاؤل، والتعاون بروح الفريق الواحد الذي يدعم بعضه بعضاً. والإنتماء القائم على الوعي وتشارك الرؤية. وعند تفحص هذه المفاصل بعمق ودقة نلمس بكل بساطة أنها تشكل بمعظمها جوهر الذكاء العاطفي أو تستند إليه. فالقائد مرتفع (Resonant Leadership)،الذكاء العاطفي أو القيادة التي متوسط ذكاء أعضائها العاطفي مرتفع تتسم بالتناغم مع الآخرين في المؤسسة

 أي أن الآخرين يهتزون مع تفائل القائد وطاقته الحماسية، بمعنى أن التناغم يخفض من الضجيج في النظام ويزيد من الإثارة والإندفاع للعمل ويخلق الفريق الواحد الذي يرتبط معاً برباط العواطف والإنسجام التي يحسها ويعيشها كل منهم. فضلاً عن أن المهم بالأمر ليس هو بث هذه المشاعر وإشاعتها في أجواء المؤسسة مع أهميتها، بل هو في إدارتها وتوجيهها لدعم المجموعة لبلوغ أهدافها. فهم كمجموعة يتقاسمون الأفكار ويتعلمون من بعضهم بعضاً، ويتخذون القرارات بشكل جماعي، وينجزون الأعمال بحرفية وإتقان، ويرتبطون معاً برباط عاطفي يحميهم في أوقات الاضطراب والتغيير

وعليه فإن الذكاء العاطفي يكشف عن قدراتنا في التعرّف على مشاعرنا الشخصية ومشاعر الآخرين، وذلك لتحفيز الذات وإدارة عواطف الآخرين وتحفيزهم لإنجازات عظيمة. وتملك القيادة التي تتمتع بذكاء عاطفي مرتفع قدرات عالية في وعي مشاعرها وتوجيه هذه المشاعر لخلق أجواء متفائلة إيجابية لدى الآخرين، بنفس الوقت فإنها تملك القدرات العالية في إدراك مشاعر الآخرين وإدارتها إيجابياً لخدمة الآخرين والمؤسسة

وهنا يقال بحق أن العواطف المستندة لقيم أصيلة إيجابية هي سريعة العدوى والإنتشار وخاصة عندما تنطلق من القيادة، فإما أن تكون إيجابية تدفع بالجميع نحو دائرة الحماس ووضوح الرؤية والآمان والبهجة، أو تدفع بهم بإتجاه الحقد والقلق والكراهية وسُمّية مُناخ العمل العاطفي

(Gottman 1993) * وبنفس السياق فقد استخدم جوتمان

(Flooding) مصطلح الغمر لوصف شدة ردّة الفعل ” المواجهة والهروب ” التي يمكن أن تطلقها رسالة حقد تغمر الآخرين بالكآبه، بحيث لايسمعون بعدها ما يقال، ولا يتمكنون من الرؤيا أو الرد بوضوح

ويقفز للذهن الرد بسرعة وسهولة وعلى من ينكرون تدخل العواطف في العمل والقرارات، بأن العواطف هي وعاء الأفكار وأساس القرارات ومرجعها شئنا أم أبينا. وفي الوقت الذي نؤمن به في هذه الحقيقة يبدأ المشوار في كيفية إستثمارها أي العواطف لتكون إيجابية وتخدم قراراتنا الذكية في توفير أفضل بيئات العمل الحافزة لإنجازات متميزة. إذا علينا أن نكون قيادات متناغمة  بدل أن نكون قيادات متنافرة 

ومن واقع الحياة ونتائج الدراسات العلمية أن التفوق الأكاديمي ومعامل الذكاء المرتفع لايضمنان الرفاهية أو المركز المتميز أو السعادة في الحياة، مع أننا نجد أن مؤسساتنا التعليمية وثقافة الأباء لاتعمل على غيرها ولا ترغب إلا بها. بالمقابل فإن الذكاء العاطفي المرتفع والذكاء الإجتماعي المرتفع المتضمن به يقفزان بصاحبهما نحو النجومية، خاصةُ إن ترافقتا مع معامل ذكاء عقلي مرتفع. لا بل قد يرجع لها وحدها أي الذكاء العاطفي النجاح المؤزر للمؤسسة أو الفرد على السواء

وحيث نجد القيادات المتنافرة تنتشر بين المستبدة المتعسفة التي تسعى حتى لتفرغ الهواء من الأمل والبهجة من حول الآخرين إلى القيادات المراوغة الماكرة التي تتظاهر بالمودة وتتسلق بالخفاء لتقلب العلاقات إلى شك وإنعدام ثقة حال إنكشافها. فإننا نجد أن القيادات المتناغمة ترتقي لتكون قيادات ملهمة يجتمع لها العقل والقلب، الفكر والمشاعر ، حيث لاغنى عنهما معاً للقيادة الناجحة، فالفكر بمفرده لن (Einstein) يصنع قائداً بل الحاجة ماسة لتنفيذ الأفكار بواسطة التحفيز والتوجيه وإلهام الحماس والإصغاء والإقناع. وقد حذر انشتاين

( Danial Golmam ) *من أن نتخذ العقل إلهاً لنا، إذا ليس له أن يقود بل له أن يخدم. كما أكّد دانيال غولمان بالنسبة للمناصب القيادية بأن أكثر من 85% من القضايا التي تميز المديرين اللامعين عن المديرين المتوسطين ترجع إلى الذكاء العاطفي. وكما نحن بحاجه إلى طرفي المعادلة العقل والقلب فإننا بحاجه إلى التوازن بينهما وضبط الإيقاع بحسب المتغيرات والظروف والموقف وطبيعة القرار دون أن نلغي أي منهما أو نهمله

ومن المهم النظر إلى أبعاد الذكاء العاطفي الأربعة الأساسية (أنظر الشكل) وعمليات التفاعل بينهما، بإعتبارهما السلاح الفتاك للقائد والقيادة، خاصة عندما ترتفع لديهم مستوى قدراتهم في إمتلاكها جميعاً، وقدراتهم في توجيهها نحو: إنجاز المهام، وخلق الإثارة والتفاؤل والشغف بالعمل، وتوفير أجواء الثقة والتعاون والدعم

ولا يفوتنا التأكيد على أن هذه الأبعاد مكتسبة ويمكن تطويرها عبر مجموعة المهارات التي ترتبط بكل بعد من أبعادها، كما ينبغي التأكيد على أنها تعمل معاً وترتفع فاعليتها وتأثيرها عندما تجتمع معاً  بنفس القوة لدى القائد أو لدى أعضاء القيادة بإعتبارها متداخلة ومتكاملة وتتدرج من الذات نحو الآخرين بتبادلية موزونة تأثراً وتأثيراً. فضلا عن أن الحرفية في إدارتها

فالقائد الذي يتمتع بذكاء عاطفي، بمعنى أن هذه الأبعاد الأربعة تجتمع إليه بمستويات عالية ويديرها بتفاعل وتوجيه إيجابي نحو تحقيق أهدافه، والتي هي بالضرورة أهداف المؤسسة، هو قائد ملهم يؤثر في الآخرين ويكسب الإتباع ويندفعون إليه بحثاً عن الآمان والتفسير والإنجاز. كيف وهو الأقدر كفرد أو كمجموعة على فهم نفسه وتوجيه مشاعره بعد ضبطها والتحكم بها نحو الإيجابية، كذلك فهم الآخرين وإستيعابهم والسيطرة على عواطفهم وتوجيهها عبر شبكة علاقات فاعلة وذكية نحو تحقيق الأهداف. فهو قادر على فهم الإشارات العاطفية الصادرة عنهم دون كلام، قادر على تحويل انفعالاتهم السلبية نحو الإيجابية لثقتهم به ويقينهم من صدقه ورعايته لمصالحهم كحقيقة لا تقبل المراوغة أو التمثيل

وحقيقة نحن هنا أمام معادلة صعبة خاصة لمن لايعرف أطرافها، ولايفهم أهميتها، ولم يتقن مهاراتها. معادلة المشاعر والعقل أو القيادة بذكاء عاطفي مفعم بالقيم أو بدون ذلك. هذه المعادلة تقوم على التوازن بين أطرافها والموالفه بينهما من حيث الأهمية والقدر بحسب الموقف والظروف، هذه المهارة الجامعة تحدد بالضبط حرفية القائد وتُمايز بين القادة.