د. خالدة مصاروة.
دعا المفكر الغربي (جان جاك روسو) إلى إغلاق المدارس التلقينية في القرن الثامن عشر، والعودة إلى التفكير الفطري الطبيعي الذي قاد البشرية قرونًا طويلة نحو التقدم، والاختراع، والازدهار. ومثله نجد صاحب كتاب: (مجتمع بلا مدارس)، ورائد الفكر التربوي (إيفان إيليش) الذي هاجم من خلال كتابه الشهير التأثير السلبي للمدارس التلقينية الأكثر انتشارًا في العالم الثالث. أما (كيني روبنسون) وهو استشاري كلفته الحكومة البريطانية عام (١٩٩٧م) بإجراء دراسات على الإبداع، والاقتصاد، والتعليم، فقد أورد في كتابه: (صناعة العقل) أن السبب الرئيسي في هدر الطاقات أثناء فترة التعليم يكمن في العقلية الأكاديمية التي ركزَّت على تطوير الإمكانات المتعلقة بنواحٍ علمية محدَّدة دون غيرها؛ فهو ربط مفهوم الذكاء، والقدرات على مجالات محصورة، مما يؤدي –حتمًا- إلى إهدار في المواهب، والطاقات لدى المتعلم.
إنَّ هذه الأكاديمية الصعبة لقنتنا معلومات لم نستعمل معظمها في حياتنا العملية، علمتنا ألاّ نبدع، فتقوَّض التخييل والإبداع لدى طلبتنا، ومن سخرية القدر أن الأهل باركوا هذا النظام، فهم يريدون أبناءهم نسخًا عنهم، فيعيدون إنتاج أنفسهم مرات متكررة، ثابتين، منقادين، لا يعرفون الحركة، ويهيمن عليهم نظام السكون الذهني والجسدي كما في المدرسة، وكأنهم منومين مغناطيسيًا، دون أي بوادر أو نوايا للإفاقة من غيبوبتهم، وهكذا صرنا تراكمات بشرية وصلت حد النقل، فلا تأليف لدينا يصل إلى حد إنتاج الآخرين، ولا إضافة علمية، وعملية، وثقافية لأي شيء. يا ليتنا بقينا على فطرتنا وتفكيرنا الطبيعي بدلاً من تكبيلنا بلعنة التلقين!.
وهنا نقف أمام حقيقة صادمة، فالقول إن جامعاتنا قد سدّت حاجة مجتمعاتنا من العقول المفكرة التي أسهمت في تنمية المجتمعات وازدهارها لا وجود لها؛ فالمجتمعات على حالها، بل ازدادت تراجعًا، وتخلفًا، وانغلاقًا، وكل ذلك يعود إلى أن مخرجات النظام التعليمي الحالي مدعومًا برضى الأهل والمجتمع هي مخرجات تلقينية لا وجود للإبداع فيها.
إنَّ ما يمارسه الآباء مع الأبناء اليوم هو ما يمنع الإبداع؛ فعندما نريد أن نشيد بالطفل نناديه يا دكتور، أو يا مهندس، وذلك تبعًا لتفوقه الدراسي، فإذا ما حصَّل علامات عالية، نبدأ فورًا بزرع القيم الخاطئة لديه، فيتولد داخله شعورًا بأن النجاح هو الطب، والهندسة، والفشل ما سواهما. وممارسات الأسرة والمجتمع لا تقل خطورة عن تلك التي تمارسها المدارس والمؤسسات التربوية، التي شرَّعت تكريم المتفوقين دراسيًا، وجعلته عرفًا وعادة في نهاية كل عام، هؤلاء الطلبة الذين أطلقت عليهم (الموهوبين) دون دراية أو تعمّق أو دراسة لمثل هذه الممارسات؛ فالمتفوق دراسيًا قد تفوَّق بالحفظ، وبالذاكرة، لا بالعقل وملكاته. إنَّ هذه المدارس التلقينية لم تضع أي اعتبار بأن هناك عظماء ليس لديهم تاريخ دراسي متفوق، بل لديهم ماضي دراسي يشوبه الفشل، مثل العالم آينشتاين.
نحن بحاجة إلى تغيير -وهذا التغيير سيحدث حتمًا- على محتوى المواد التعليمية التي سترسخ الإبداع على حساب التلقين، وستجعل التفكير الناقد حاضرًا في صلب المناهج، والتي بدورها ستتحول إلى لغة رقمية متاحة للجميع بأقل التكاليف، بل قائمة على الابتكار والإبداع والبحث العلمي بعد إعداد المعلم، وتدريبه، وبعد غرس مبادئ ومفاهيم التعلم الذاتي المستمر عند الطالب.