بقلم: *الأستاذ الدكتور محمود السلخي
تمضي الأسرة سنوات وسنوات تسعى إلى تحقيق أهدافها السامية، وبناء أفرادها ذكورًا وإناثًا بناءً قيميًا وخلقيًا وسلوكيًا قويمًا. كل أب فاضل وكل أم فاضلة يسعى إلى إيجاد الفرد الصالح لنفسه ومجتمعه، ذي شخصية إنسانية سوية.
وجاءت كورونا بأثقالها، وفرضت علينا التعلم عن بعد، وفي ثناياها امتحانات أونلاين ، وهنا يأتي المشهد الأكثر إيلامًا. ماذا فعلت الأسرة بأطفالها؟ الأم تمتحن نيابة عن ابنها ذي العشر سنوات، والأب يقدم امتحانًا قصيرا عن ابنته ذات الاثني عشر عامًا، الأخ الأكبر، والأخت الكبرى …. ماذا يجري؟! ما هذا؟!!
أين ذهبت سنوات التربية والتنشئة والتزكية والرعاية والتوجيه والإرشاد للوصول بهذا الطفل إلى القيم الفاضلة النبيلة؟ هل يُعقل أن تهدم الأسرة تلك السنوات بلحظة؟ وما المقابل العظيم ؟ علامة (درجة) ، مجرد رقم (10، 9، 8،…).
أتظنّ هذه الأسرة أنّ كبرى جامعات الوطن ستنصّب ابنها ذا العشر سنوات لينضم إلى كوكبة الفرسان في كلية الطب أو الهندسة أو القانون…. أم تراها تتوقع أن تستدعيه جامعات هارفارد وستانفورد و MIT؛ ليلتحق بصفوفها معززًا مكرمًا؟!!
هل يمكن لأسرة أن تهدم بناء قيم أطفالها لمجرد (رقم)؟ هل أصبحت أسرنا تتنافس فيما بينها أيها أكثر وأمهر غشّا؟ وتتفاخر الأم (القدوة) بين زميلاتها وصديقاتها وأخواتها بأنها حققت بالأمس العلامة الكاملة في اختبار الرياضيات أو اللغات، في حين كان ابنها يمارس هوايته في النوم العميق، أو لعب كرة القدم، أو البلايستيشن…
أيها الآباء، أيتها الأمهات: اعلموا أنّ ما تفعلونه بأطفالكم جريمة، ستعضّون أصابعكم ندمًا عليها غدًا. اسمحوا لي أن أسألكم عن قيمتيْ الأمانة والصدق اللتين صدعتم بهما عقول أطفالكم، وعن قيمة مراقبة الله (اتق الله حيثما كنت)، وقيمة تحمل المسؤولية، وعاقبة حرمة الغش. أين ذهبتم بهذه القيم؟ هل يتصور شخص أن يهدم ما بناه؟
أتخيل لو أنك نهيت ابنك غدًا عن الغش أو السرقة، سيدير لك ظهره، ولسان حاله يقول لك: أبي أنت قدوتي بالأمس. أمي: أنت قدوتي بالأمس. أتظنّ أنه سيستمع لك بإنصات وأنت تسرد عليه قصة بائعة اللبن وابنتها مع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنت تؤكد عليه في ختام سردك (إنْ كان عمر لا يرانا، فإنّ رب عمر يرانا).
أيها الآباء الأفاضل، أيتها الأمهات الفضليات: اسمحوا لي أن أطرح عليكم السؤال الآتي: كم من الوقت والجهد تحتاجون إلى إعادة هذه القيم إلى نصابها القويم؟
أيها الآباء: أما وقد أصبح التعلم عن بعد، والامتحانات أونلاين ، أرجوكم استثمروا هذه اللحظات بما ينفع أبناءكم، كونوا قدوات لهم بالأمانة، ومراقبة الله، وتحمل المسؤولية، علّموهم التوكل لا التواكل.
وختامًا، فإني أضع بين يدي وزارة التربية والتعليم بعض الرسائل التي يمكن الأخذ بها:
كما تعلمون أنّ اختبارات الأونلاين في مدارسنا تفتقر إلى حد ما إلى معيار النزاهة والعدالة، لذا فإني أقترح أن يلجأ المعلمون إلى تقييم طلبتهم من خلال الأسئلة الشفوية التي تدار داخل الحصة، والتي تدلّل إجابة الطالب على مدى فهمه وإتقانه. والاستعاضة عن التقديرات الرقمية لهذا العام الدراسي برصد علامات المواد بالحروف (أ، أ-، ب+، ب، …) أو التقدير العام ( ممتاز، جيد جدا، جيد،….). ومن جهة أخرى ضرورة تفعيل دور المرشدين التربويين بتقديمهم محاضرات عن بعد تربوية ونفسية لطلبتهم ، وخاصة في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها طلبة التعليم العام على وجه الخصوص. وأخيرًا لنتعاون جميعًا لتحويل هذه المحنة إلى منحة.
*استاذ المناهج والتدريس/ جامعة البترا