الانتقال من اقتصاد الاسترضاء إلى اقتصاد الإنتاج هو الحل

5 مارس 2021
الانتقال من اقتصاد الاسترضاء إلى اقتصاد الإنتاج هو الحل

جمانه غنيمات

وصل القنوط بالعديد من المسؤولين عند سؤالهم عن الحلول للخروج من الوضع المتردي للاقتصاد، إلى الصمت أو التعلثم، وكأن الطريق باب مسدود أو محكوم عليه بالفشل، رغم أن الحل لم ينعدم وإن كان صعبا ويحتاج إلى شجاعة لتنفيذه.

وقبل الخوض بالحلول الممكنة، فإن من الأولى أن نشخص المشاكل والأسباب التي قادت إليها، لتكون القدرة على تحديد نوع المرض أكثر دقة، وبالتالي العلاج.

فمن يراجع الموازنات العامة للحكومة المركزية والمؤسسات المستقلة، يدرك أين المعضلة، وكيف أدى حجم الزيادات الكبيرة وغير المدروسة التي طرأت على حجم الإنفاق العام، لدرجة لم تنسجم البتة وحجم الموارد المحلية، تحديدا المالية لما نحن فيه اليوم، مع الإشارة إلى أن القفزات الكبيرة في النفقات العامة، لا تتسق مع هيكل الاقتصاد وإمكانيات البلد المحدودة.

ليس التزايد المضطرد على مدى أكثر من عقد، هو ما يميز حال الإنفاق العام فحسب، بل ثمة خلل كبير يكمن في أنه لم يحقق النتيجة المرجوة منه بتحقيق التنمية الشاملة، فعلى مدى سنوات طويلة، كررت الحكومات الخطأ بتوجيهها الزيادة للنفقات الجارية، التي تتركز نسبة كبيرة منها بالرواتب، الأجور والعلاوات، التقاعدين المدني والعسكري، إضافة إلى أقساط الدين العام وخدمة المديونية.

لو أن هذا الإنفاق حقق الهدف منه، وهو كسب رضا شريحة من المواطنين لصفقنا للحكومات، ولو أن الانفاق جاء نتيجة زيادة الإيرادات المحلية غير الضريبية لصمتنا، بيد أن المصيبة تكمن في أن تغطية زيادة النفقات جاءت من بوابة الدين، مما زاد الدين العام لحدود خطيرة.

ولعل اللافت هنا، أن نهج زيادة النفقات الجارية، أمر تجرأت عليه كل الحكومات بغض النظر عن هويتها ولونها السياسي، سواء حكومات ليبرالية، محافظة، أو حتى إصلاحية، إذ غابت الحكمة بضرورة زيادة الإنفاق الرأسمالي بدلا من الجاري، باعتبار الأولى البوابة الرئيسية للتخفيف من المشكلات الاقتصادية.

إذ كيف يستوي أن يعمل الطيف السياسي، بصرف النظر عن شخص رئيس الوزراء ولونه السياسي وبرنامج عمله، بذات السياسة المالية والاقتصادية؟، وكيف لنا أن نتوقع تغير النتائج طالما الحكومات كلها تطبق النهج ذاته، بزيادة الإنفاق الجاري، وإبقاء الرأسمالي “المفيد” بحدوده الدنيا.

وعند النظر إلى قرارات الحكومات جميعها، تظهر النتائج والحقائق بالأرقام، بأنه لم تأت حكومة إصلاحية بحق تدرك أن المطلوب لتغيير النتائج والخروج بنتائج مختلفة، هو وضع معادلة جديدة ومختلفة للعمل.

أين المعضلة؟

المشكلة الأهم، هي أن الحكومات قللت من تركيزها على الإنفاق الرأسمالي وبالغت “نتيجة سياسات الاسترضاء” و”غياب الرؤية البديلة” في النفقات الجارية، الأمر الذي عظم تشوهات هيكل المالية العامة، ولم تتحقق أرقام نمو جيدة، ولم تتحرك عجلة الاقتصاد، كما لم تبنِ الحكومات المتعاقبة هيكلا جديدا للاقتصاد، يؤسس لحل أكيد للمشكلات المتوارثة من حكومة لأخرى (فقر، بطالة، مديونية)، وتأجلت التنمية المنشودة كثيرا، نتيجة محدودية الإنفاق الرأسمالي مقارنة بالجاري.

بالأرقام، قفز بند الإنفاق الحكومي في الموازنة المركزية خلال أكثر من عقد من الزمان بنسبة تتجاوز 50%، ليصل الإنفاق العام إلى حدود 10 مليار دينار في 2021 (جلها من النفقات الجارية)، مقارنة بنحو 6 مليارات دينار للعام 2009.

منحى الإنفاق العام خلال السنوات العشر الماضية، يظهر أن الحكومات المتعاقبة زادت نفقاتها بمقدار 300 مليون دينار سنويا بالمتوسط خلال تلك المدة، تركز جلها في الإنفاق الجاري، فمثلا ارتفعت فاتورة الرواتب والعلاوات من نحو 2.5 مليار دينار لتبلغ نحو 4.1 مليار دينار سنويا، عدا عن التقاعد الذي زادت قيمته من 300 مليون وصولا إلى مبلغ 1.5 مليار دينار سنويا.

ويلاحظ أن الأوضاع السياسية في المنطقة، خصوصا بعد اندلاع “الربيع العربي” وأعباء اللجوء، أثرت على مسار النمو، وساهمت بزيادة النفقات الجارية، فتصاعد المنحى لحدود يخشى أن يقال إنها تستعصي على العلاج، فعلى مدى عقد ونيف اتخذت العديد من القرارات التي صبت باتجاه زيادة المعينين في القطاع العام المدني والعسكري، وتزامن ذلك مع “موضة” إنشاء مؤسسات مستقلة، كان المبرر الأساس لها التخلص من بيروقراطية القطاع العام، بيد أن الهدف لم يتحقق، بل وللأسف خلق طبقة بيروقراطية جديدة.

ومن الأمثلة على “الإنفاق الاسترضائي”، هيكلة الرواتب التي قدرت قيمتها في البدايات 90 مليون دينار، فيما كان الأثر الحقيقي نحو 450 مليون دينار، كما كلفت الزيادة الأخيرة للرواتب والذي اتخذ القرار بخصوصها في العام 2019، نحو 300 مليون دينار.

بالنتيجة، لم يفلح هذا الإنفاق غير الصحي للموازنة العامة بكسب رضا الأردنيين، وتحديدا الشرائح التي تشملها الزيادات، بل العكس، إذ ما تزال الفجوة تتسع بينهم وبين الحكومات، بمعنى أن كل هذا الإنفاق الاسترضائي لم يحقق الغاية منه، وبالوقت ذاته، عقد وضع المالية العامة لدرجة بلغ معها الإنفاق الجاري أكثر من 80% من الإنفاق العام.

من زاوية ثانية، زاد الدين العام بالتزامن، حيث ارتفعت فاتورته خلال العام الماضي مستثنى منه أموال صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، 11% إلى 26.51 مليار دينار، مشكلا ما نسبته 85% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ إجمالي الدين العام في نهاية آب (أغسطس)، 33.18 مليار دينار، مضافا إليه أموال الضمان الاجتماعي.

السؤال الملح اليوم والحل

إن كان الإنفاق سيمضي بهذا المنحنى والمضمون، فهل نتوقع ونحن نطبق السياسات ذاتها، أن نخرج بنتائج مغايرة؟. الإجابة ببساطة لا، كون الاستمرار بهذا الطريق لن يغير المسار ولن يجلب النتائج التي يطمح إليها الناس، تحديدا حين يتعلق الأمر بتشغيل الشباب الذين تصل نسبة البطالة في صفوفهم ما يزيد على 42%.

ما الحل؟، ثمة مقترحات يقدمها الخبراء جلها يرتكز على تغيير طريقة التفكير التي اعتدنا عليها، ترتبط بزياد الإنفاق الرأسمالي حتى وإن كانت الزيادة سترفع من قيمة المديونية، بحيث يوجه الإنفاق الرأسمالي لبناء قاعدة جديدة تؤسس لهوية جديدة للاقتصاد، للخروج بشكل متدرج من اقتصاد الاسترضاء إلى اقتصاد الإنتاج، وفق رؤية تحل مشاكلنا ولا تعقدها كما هو الحال الآن، اعتمادا على أن هذا النوع من الإنفاق حتى وإن زاد الدين، إلا أنه بالضرورة يحرك العجلة ويحقق النمو، وما نصيحة كريستين لاجارد للدول بالاستمرار في إعلان حزم التحفيز، إلا دليلا على ذلك، بيد أن الاقتصاد الوطني يسير بعكس هذا الاتجاه، ويدلل على ذلك حجم النفقات الرأسمالية المخصصة لمشاريع جديدة في الأردن بحوالي 170 مليون دينار فقط.

الكلام الصريح بالمختصر، أن تغيير الحال يحتاج إلى اتباع نمط مختلف في التفكير والإنفاق، وقد يحاجج البعض بأن زيادة النفقات سيزيد الدين العام وهذا صحيح، لكن زيادة الدين للتشغيل وإرساء المشاريع الكبرى يستحق زيادة المديونية، إذ لا يضير الغريق قليل من البلل.

لنتخيل، ماذا سيكون حال الاقتصاد لو أن المليارات التي وجهت للإنفاق الجاري خصصت للنفقات الرأسمالية؟. الإجابة واضحة، فهل نصحح المسار