المهندس سمير حباشنة
(1)
في الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة، التي تختم هذا العام العقد الثاني من عمرها، كان مؤسسوها الأوائل قد عرّفوها، بأنها “مؤسسة مجتمع مدني أردنية بأفق عروبي، تتبنى منهج التفكير الايجابيّ”، والتفكير الإيجابي هو وجه آخر للنقد، والنقد بالضرورة أن يكون موضوعياً، وإلا يتحول إلى تجريح أو مناكفة.
والنقد كما أراه هو سبيل أي مجتمع أو أي قطاع في الدولة..نحو التطور.. فالنقد هو استنطاق لما هو قائم، وسَبرَ غورِهِ وتحليله، وبالتالي إصدار حكم نزيه سواء كان ماهو قائماً مفيداً مكتملاً، أو ضاراً أو يحتاج إلى تعديل أو إشباع.
وهذا ينطبق على الحياة بكل أشكالها واهتماماتها، فالنقد هو الذي يستولد الاستفسار، والاستفسار بدوره هو الذي ينشط العقل، لأن يبتكر إبداعات جديدة.. كإجابة على الاستفسار.. وهو ما يعني التقدم والسير إلى الأمام.
واعتقادي أن النظريات الفكرية ومناهج الحكم وبرامج الحكومات على الصعيد الإنساني ما كان لها أن تتقدم بدون وجود النقد، فالحياة، حين يُنزع منها النقد، تعني السكون والمراوحة في نقطة لا تقوى على مغادرتها..مثل سيارة “غرزت” في الوحل ولا تمتلك أدوات الدفع المهيئة لهكذا حالة؛ وبالتالي فإن النقد حالة صحية تعطي مناحي الحياة كلها دفق من النشاط، يحررها من الخمول والركون إلى مسلمات بالية قاصرة دون أن تقدم إجابة على التحديات التي تواجه الدولة أو أي من قطاعاتها.
(2)
وحتى لا نبقى في الإطار النظري، فإني أحاول هنا الدخول إلى حالتنا الوطنية، والاستناد إلى بعض الأمثلة من النقد الإيجابي، وتحديدا في إطار الجمعية المذكورة، التي أَتشرف بعضويتها منذ التأسيس.
في موضوع اللامركزية، التي لا زالت تراوح في مكانها، كان جلالة الملك عبدالله الثاني قد تلقى تقرير لجنة كُلّفت بدراسة هذا الأمر، وأوصت بأن يتم تطبيق اللامركزية على مستوى الأقاليم وتقسيم المملكة إلى ثلاثة. وكان لنا في الجمعية رأي آخر، بأن اللامركزية، وحتى تعطي أُكلها، يجب أن تكون في إطار المحافظة، وقمنا بنقد ما كانت توصلت إليه لجنة الأقاليم، وقدمنا رؤية بديلة نعتقد بأنها أكثر عملية وأكثر كفاءة. ووجهنا بهذا الخصوص رسالة إلى جلالة الملك، الذي بدوره درس الاقتراحين وقرر تطبيق اللامركزية في إطار المحافظة، منتصراً إلى وجهة نظر أكثر عملية ونجاعة.
وفي السياق ذاته، وعندما ذهب مجلس الأعيان إلى نزع الاستقلال المالي والإداري عن مجالس المحافظات المُنتخبة خلال مناقشته لقانون اللامركزية، تصدَت الجمعية ثانيةً إلى هذا التوجه الذي من شأنه إعادة إنتاج المجالس الاستشارية القائمة في المحافظات.. دون تغيير!! حيث رفعنا إلى جلالة الملك، أيضاً، رسالة نبيّن فيها أهمية إسباغ مبدأ الاستقلال المالي والإداري لمجالس المحافظات، وتفند الرسالة عدم جدوى ما ذهب إليه مجلس الأعيان، وتمنينا على جلالة الملك أن يرد هذا القانون.. وهو ما تم، لأننا نعلم بأن الملك مؤمن في اللامركزية، ويريدها على نحو أمثل.
وفي كلتا الحالتين، ظهرت أصوات تتملكها الخشية والحذر من أننا نأخذ موقفاً مخالفا للتوجه الملكي، مع أننا وفي الحالتين كنا نود تدعيم التوجه الملكي، بأن يخرج قانون اللامركزية على نحو فعّال يعطي النتائج التنموية والإدارية المأمولة منه.
(3)
منذ نحو عام ويزيد، وفي لقائين متباعدين مع الإعلاميين المتميزين، عامر الرجوب في تلفزيون المملكة ومحمد الخالدي في تلفزيون رؤيا، قدمت نقداً إيجابيا موضوعيا لقانوني الانتخاب والأحزاب الحاليين، مؤشراً على تعديلات من شأنها النهوض بالحياة السياسية، واستكمال مسيرة الإصلاح السياسي، التي ينادي بها جلالة الملك، ونحن معه كمواطنين ومهتمين منذ سنوات نطالب بذلك. وقد إتصل بي بعض من “النخبة” الأردنية من أن هذا النقد لا يتسق مع توجهات الدولة ومرجعياتها، بل إن بعضهم كان يتسابق على المنافذ الإعلامية ليشيد بالقانونين المذكورين، بل والذهاب إلى حد القول بأن مسيرة الإصلاح السياسي في بلادنا قد اكتملت..ولا داعٍ لأي تعديلات!! باعتقادهم أن ذلك يرضي جلالة الملك!!
في حديث جلالة الملك عن دخول الدولة في مئويتها الثانية، طالب بإصلاح سياسيّ جذري والذي يبدأ بتغيير على قانوني الانتخابات والأحزاب، وفي ضوء حديث جلالته، قلب هؤلاء “النخبة” الموجة، وتسابقوا في لقاءاتهم على جلد القانونين المذكورين ووضعوا بهما “ما وضع مالك في الخمرة”!!
فهل مثل هذا السلوك يخدم الدولة ويعزز من نظامها السياسي؟! وهل هذه السلوكيات تخدم جلالة الملك ورغباته في الإصلاح السياسي والاقتصادي؟! أم أنها سلوكيات تغرر بالدولة بل وتعيق تقدمها؟! أسئلة مطروحة علينا جميعا!!
(4)
وبعد؛ أعتقد أنني اقتربت قليلا من جلالة الملك في فترات متباعدة، وأعتقد بأنه شخصية يريد أن يرى الأردن مثل سويسرا وبأسرع وقت، وأنه يود سماع آراء موضوعية، بل ويستمع إلى النقد حين يحمل النقد بدائل ناجعة، لما هو قائم في كل القطاعات.
إن محبة الملك والاخلاص للدولة لا تتم بهذه الأساليب السائدة، وإنما تتم بالتفكير الإيجابي والإجابة بموضوعية على التحديات التي تواجه الدولة، واقتراح سبل من شأنها النهوض، وأن لا تكون وظيفة المسؤول أن يحافظ على موقعه فقط، حتى لو جاء الطوفان وجرف الأخضر واليابس.
والله، ومصلحة الأردن، وسلامة نظامنا، من وراء القصد،،