التقاعد المبكر: تصريح رسمي… وإجراء معاكس… وموظفٌ يدفع الثمن

26 ثانية ago
التقاعد المبكر: تصريح رسمي… وإجراء معاكس… وموظفٌ يدفع الثمن

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

لا شيء يُدهش في الأردن أكثر من قدرة بعض المؤسسات على التصرف كأنها جُزرٌ سيادية معلّقة بين السماء والأرض، لا تسمع من الحكومة إلا ما يوافق هواها، ولا تلتزم إلا بما يمليه عليها مزاج إداري متقلّب كريح الصحراء.
ومع إعلان وزير العمل خالد البكار—وبصوتٍ لا يحتمل التأويل—أن الدولة تتجه لإلغاء قرار إنهاء خدمات من أكمل ثلاثين عاماً، وأن ملف وقف التقاعد المبكر يُطبخ على نار رسمية هادئة، خرجت أمانة عمّان بقرارها الأخير كأنها تقول للحكومة بلا تردد: “سنمضي حيث نشاء، ولن ننتظر أحداً”.

لقد جاء قرارها بإحالة موظفين إلى التقاعد المبكر قَسْراً، لا كاجتهاد ولا كخطأ إداري، بل كحركةٍ هوجاء أقرب إلى “هجمة مرتدة” تُنفّذ قبل أن يطلق الحكم صفارته، وكأن الأمانة كانت في سباق ماراثوني مع الزمن، تريد أن تُنهي المباراة قبل أن تتغيّر قوانين اللعبة.

أيُّ جرأة هذه؟
أيُّ نزق إداري هذا الذي يدفع مؤسسة حكومية إلى تنفيذ قرارٍ تعلم مسبقاً أن الدولة تتجه لوقفه؟
وكأنها تريد أن تقول للجميع: “نحن فوق النص، وفوق التوجيه، وفوق القرار، وفوق حسابات المواطن والضمان”.

لقد بدا المشهد كله كأننا أمام جهازٍ إداري منفلت من عقال الدولة، يتصرّف بفردانية تُذكر بمشيخةٍ من العصور الغابرة، يتقدّم خطوة ثم يلتفت ليقول: “ها قد فعلنا… فمن يجرؤ على الاعتراض؟”

فالوزير يعلن بوضوح أن التقاعد المبكر لم يعد خياراً آمناً، وأن الدولة بصدد إعادة ترتيب هذا الملف حمايةً للموظفين والضمان الاجتماعي، بينما الأمانة تسارع، بكل ما أوتيت من استعجال، إلى دفع الموظف البسيط نحو هذا المصير، كمن يزجّه في وادٍ ماليٍّ سحيق لا حبال للنجاة فيه.

أيُّ تناقض هذا؟
كيف يُعلن الوزير سياسة الدولة، وتأتي الأمانة بقرارٍ يعاكسه كما يعاكس التيارُ مجرى النهر؟
هل نحن أمام جهازٍ حكومي أم أمام “حكومة داخل حكومة” تمارس سيادتها الخاصة؟

إن قرار إحالة الموظفين إلى التقاعد المبكر ليس قراراً عادياً.
إنه قرارٌ يقصم الظهر المالي للموظف، ويُربك الضمان الاجتماعي، ويجعل الموظف يواجه سنوات طويلة من العوز تحت شعار “إصلاح إداري” لم يصلح يوماً شيئاً.

ومع ذلك تتفرد الأمانة بهذه السابقة، وكأنها تكتب دستوراً صغيراً خاصاً بها، لا يحق لغيرها الاطلاع عليه.
تتصرف وكأن التقاعد المبكر ملكٌ صرف لها، تمنحه لمن تشاء وتنزعه ممن تشاء، دون انتظار الدولة، ودون حتى تنسيق مع صاحب القرار الأول، ودون خشية من أن كلام الوزير يُفترض أنه خارطة طريق للبلاد لا منشور رأي على هامش صحيفة.

وكأنّ الأمانة أرادت أن تثبت “براعتها” في تنفيذ ما يضرّ، وأن تُسجّل سبقاً إدارياً يشبه تلك الاجتهادات العقيمة التي تُطبّق على الموظف الضعيف فقط، بينما كبار الرواتب يظلون محصّنين كالأحجار الكريمة التي لا تُلامسها يد.

لقد صار من الواضح أن الأمانة تُعاني من نزعة استقلالية مزاجية، تتعامل مع قرارات الدولة وكأنها “اقتراحات لطيفة” لا أكثر، وتتصرف في ملف التقاعد المبكر كأنها تحرس كنزاً لا يعرف أحد مصدره.

وهنا يصبح السؤال قنبلة لا يمكن الهروب منها:
هل أمانة عمّان مؤسسة حكومية تتلقى التوجيهات… أم سلطة موازية تتحدّى التصريحات الرسمية وتسبقها كما يسبق الظلّ صاحبه؟
أم هنالك اتفاق خلف ستار المسرح لا يعلمه إلا من أخرج فصوله وسطرها مسرحية تراجيدية يتباكى في نهايتها الجمهور على البطل الذي ضحى بنفسه بينما اصحاب الرواتب الفلكية والمكاتب الوثيرة ممن تجاوز اعمارهم سن التقاعد بل سن الزهايمر يقبعون على كراسيهم يراقبون المشهد ويصفقون في نهاية كل فصل من فصول مسرحية التقاعد المبكر انتصار ؟؟؟؟

كيف تُحال كوادر إلى التقاعد القسري بينما الدولة نفسها تُعلن أنها بصدد إغلاق هذا الباب حمايةً لهم؟
كيف تُلقى أرزاق الناس في حفرة التقاعد المبكر قبل أن تعلن الحكومة موقفها النهائي؟
أهي مصادفة؟
أم استباقٌ متعمد؟
أم أننا أمام عقلٍ إداري يهوى أن “يخالف ليُعرَف”؟

إنّ ما جرى ليس مجرد قرار…
إنه إعلان صريح بأن البيروقراطية في الأمانة تملك أذناً لها، ولساناً لها، وقراراتٍ لا تعترف بوجه الحكومة.

وفي دولة تتألم اقتصادياً، ويئن موظفوها، ويكاد صندوق الضمان يصرخ من كثرة التحميل عليه، تأتي الأمانة لتقول لهم جميعاً: “لا بأس… سنضيف قليلاً من الألم”.

ويبقى السؤال المسموم معلقاً في الهواء:
هل ما جرى كان مجرد خطأ… أم كان فصلاً ادارياً منفرداً، فيه تكتب الأمانة تاريخها الخاص بعيداً عن الدولة؟

وإذا كانت الدولة تقول “أوقفوا التقاعد المبكر”، بينما الأمانة تقول “عجّلوا به”، فماذا نسمي هذا؟
إصلاحاً؟
أم فوضى؟
أم تمرّداً بيروقراطياً مكتمل الأركان؟

مهما كانت الإجابة، فإنّ للمواطن رأياً لا يحتاج إلى دبلوماسية: لقد طفح الكيل.