بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في زمنٍ تهاوت فيه مقامات الكلمة، وشاخت فيه هيبة الصوت الحرّ، نرى على شاشات بعض المحطات الفضائية ما يُرثى له من وأدٍ للحقيقة، وعبثٍ بالخطاب، وتدنٍّ في مقام النقاش، حتى غدت كثيرٌ من تلك المنابر مرابيعَ للفوضى، لا ضيوفٌ فيها إلا صريعة الحنجرة، ولا حديث فيها إلا مراثي العقل. أين أدب الحوار؟ أين رفعة الحديث؟ أين نهضة الفكر؟ كلّها تتآكل على شاشاتٍ ملأى بالضجيج اللفظي، والتهاتر الصوتي، والسباب المقنّع بصيغة رأي. ضيوفٌ يقتحمون فضاء البثّ بلا احترامٍ لعقول مشاهديها، لا يحملون من أدوات النقاش إلا العبث والصياح، ولا من حججهم إلا الجوفاء من المعنى والأدب.
ما هكذا يُخاطب العقلاء، ولا هكذا تُبنى الأوطان. لقد نزعت عن الحوار ثياب الهيبة، وألبسته ثوب المعرّة والتهريج، حتى بات أشبه بسوق نخاسة عقلية يتبارى فيها المتحدثون على نحت ألفاظٍ ملوّثة، وقذف العبارات من حظائر العاطفة المتعفّنة.
أما المذيع فقد كان يومًا مرآة الحق، ولسان الصدق، وميزان العدل في مجلس القول. و اليوم، فقد انقلبت بعض الأدوار، فإذا ببعضهم – في ثوب محايدٍ ملطّخ – يلوّح للضيف بما يريد، ويقمع ما لا يريده البعض أن يُسمع. سبحان من بدّل حياد الهامة إلى مطاوعة الذيل، فصار بعضهم أشبه بحوذيٍّ يجرّ العربة حيث يراد لها أن تذهب، لا حيث تأخذها الحقيقة. يُكمم ضيفًا، ويفتح منبره لآخر، ويعقد المحاور كما يعقد الدهاة الأوتار لوقع المعركة.
ما عادت ضوضاء بعض الحوارات تقف عند حدود المراهنة على المحتوى، بل تجاوزت إلى اغتيال الذوق العام. ألفاظٌ تذبح اللغة على الهواء، وتطعن في الذائقة بغدرٍ صريح، حتى يتساءل المشاهد: أصوت رجال دولة هذا؟ أم صراخ أهل صراعاتٍ بثوب قومٍ نُزعت منهم المروءة؟ إنها ألفاظٌ لو مرّت على مسامع أعرابيّ في الصحراء لقال: “إنّا لله، ما هكذا تهذيب اللسان، وما هكذا تساس العقول”.
إن احترام عقول المشاهدين والمستمعين والقراء ليس ترفًا إعلاميًا، بل هو صلب الرسالة. غير أنّ بعض الأقلام المأجورة والمتحدثين الجدد، خصوصًا أولئك المتسلّقين على جدران الشهرة الرقمية، قد خلطوا بين أن يكون المرء صاحب رسالة وبين أن يكون مجرّد باحث عن “ترند” عابر. وللأسف، صار البعض يتسابق إلى السطحية، يعبث بنار التفاعل السريع على حساب العقل البطيء والعميق، فيتوه الرابط بين الفكر والغاية، ويتحول الإعلامي أو الكاتب إلى صدى جوفاء لمطالب الصخب.
أما عن بعض المحطات الفضائية، فحدث ولا حرج. يهبّ بعضها للذود عن السردية الرسمية، دون عقلٍ أو تقديرٍ أو تمحيص. يُنصّب نفسه وصيًّا على الحقيقة، ويرفع راية التسحيج قبل أن يطلع الصبح على وقائعها. يُطبّل، يُزخرف، يُعيد قول المسؤول كما يُعاد صدى الصدى، كأنما التسحيج عقيدة، والتبعية موروث. بعض الإعلامٌ يجمّل الباطل، ويُلبس المداهنة ثوب الحرص، ويجهض بوادر الإصلاح من رحم الحقيقة. إنه خيانةٌ للرسالة الصحفية، وانحرافٌ فادح عن نبض الحرية.
ومع ذلك، ما زال هنالك رجالٌ ونساءٌ من الصحفيين والإعلاميين على الحق صابرين، متخندقين في خنادق الكلمة الصادقة، يؤثرون الصدق على السلامة، ويرفضون أن يكونوا مجرد أبواقٍ أو صفحاتٍ للبيع. صحفيون وصحافة تُرفع لهم القبعات، وتُشعل لهم مسارج التقدير، إذ هم مرجعٌ في أدب الحوار، وروّادٌ في نقاء الطرح، وكلمةُ الحق عندهم لا تشوبها شائبة، ولا تبحث عن ترند، ولا تجامل مسؤولًا، ولا يُجعل لأقلامهم ثمن.
لقد تحوّلت بعض الفضائيات إلى دكاكين سياسية تُباع فيها الأفكار كما تُباع المساحيق، وتُسوّق فيها الروايات كما تُقصّ حكايات الليل للأطفال. إنها أبواق، لا منابر. مقابر، لا مدارس وعي. تُبثّ منها الكلمات كما تُنفث من أباريق الدخان، تستهدف الأعصاب قبل الألباب، والولاء فوق العقل، والسكوت على الفضيحة فوق كشف الزيف. إنّ إصلاح الإعلام ليس وعدًا موسميًا، ولا ترقيعًا تجميليًا، بل هو حاجةٌ وطنية، وضرورة فكرية، وتاريخ يرفض أن يُكتب بالحبر الفاسد.
وفي النهاية، الإعلام الموجّه هو اغتيال للحق والكلمة والعقول، هو محاولة لطمس حقيقة وتجميل كذبة، ودفاع مستميت عن باطل مكشوف. لن يُبنى وطنٌ يعلو بالصوت دون الحكمة، ولن تكبر صحيفةٌ يُغتال فيها السؤال. فلنقلها صريحة: إن بقي الإعلام عبدًا للظل، فلن يُشرق عليه فجر الحقيقة مهما أضاءت شموس الحق.






