د. محمد عبد الله القواسمة
من يتابع ما ينشر في الصحف والمجلات، والمواقع الإلكترونية يجد كثيرًا من الكتابات، التي يمكن أن نطلق عليها كتابات ثنائية القارئ. أي لا يقرؤها إلا قارئان: الأول كاتبها، والثاني الذي تتحدث عنه، ويكون موضوعها، أي الشخص الذي يتوجه إليه الخطاب.
وما نقصده بالقارئ، هو القارئ الناقد، المتفاعل مع ما يقرأ، أو هو، حسب نظرية التلقي، المنتج الذي ينتج قراءة أخرى مما يقرأ، وليس المتصفح الذي يمر مرور الكرام على النص.
ليست كتابات ثنائية القارئ مثل الرسائل الإخوانية الأدبية، التي ازدهرت في العصر العباسي، تتجلى فيها الصور البيانية والبديعية وتعدد القراءات، بل كتابات تتركز على مدح القارئين: الكاتب والمخاطب. وعادة تبدأ بذكر علاقة الكاتب بهذا المخاطب، فيذكر لقاءاته به، وزمانها ومكانها. وهذه اللقاءات قد تكون حقيقية، أو خيالية تحققت من خلال الاطلاع على الأعمال والإنجازات.
هذه الكتابات متشابهة في غايتها بالوصول إلى المخاطب وتملقه؛ لعلو منصبه واتساع نفوذه، أو للحصول على مساعدة منه في وظيفة أو مال، أو ربما خوفًا من بطشه وسطوته، أو ربما لمجرد التقليد الاجتماعي. ولهذا هي كتابات لا تضيف جديدًا إلى الأدب؛ فهي تخلو من الفكر العميق والتحليل العلمي، ولا تهم الآخرين، ولا قيمة لها إلا بتمتين العلاقة على المستوى الشخصي بين الكاتب والمخاطب، وهي لا يتقبلها إلا القليل من المخاطبين؛ لما تحدثه من حرج، مثلها مثل الألقاب المبالغ فيها. ويحضر هنا ما أحس به سارتر عندما جاء إلى مصر عام 1966م. فقد احتج على أحد المضيفين عندما قدمه بستة ألقاب، وقال لأحد مرافقيه أن يحمل عنه بعضها؛ لأنه لا يستطيع حملها. وقد ساهمت في ذيوع الكتابات ثنائية القارئ وسائل التكنولوجيا الرقمية، من فيس بوك ووآتس وإكس وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. إذ وجدها بعض الكتاب من الوسائل المهمة والسهلة، في تحقيق غاياتهم الدنيوية، والوصول إلى الشخصيات التي استهدفوها بكتاباتهم.
هذا النوع من الكتابات – كما أرى- مقبول إذا ظل في نطاق الاثنين، أي نوعًا من الرسائل الشخصية بين الكاتب والممدوح. ولكن إذا زاد عن الحد فيكون مذمومًا، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما سمع رجلًا يمتدح آخر قال له: قطعت ظهره، ويلك! إذا أراد أحدُكم المدح فليقل: أحسبه كذا والله حسيبه، وقال: إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التُّراب.
ورأينا الكاتب المرحوم إبراهيم العجلوني يكتب في صحيفة «الرأي»(12/6/2001م) عن ندمه؛ لأنه انزلق في كتابة هذا النوع من الكتابات التي وصفناها بثنائية القارئ، لرقة حاله ولجوئه إلى الوظيفة التي يراها نوعًا من العبودية، وتمنى لو لم يكن كتبها؛ لبعدها عن الموضوعية، وميلها لإرضاء الناس. يقول عن ذلك:» ولقد جرّت علي عتبا وغضبا، وجعلتني – وإن كان ذلك بآخرة من عمري – أتمنى لو أعود على آثاري تقصيصًا فأمزق كل تلك المقدمات التي كتبتها لكتب أعرف الآن كم كنت غير منسجم مع ذوقي وعقلي حين كتابتها، وكم كنت مجاملًا على حساب ما اعتقده أو استيقنه من حقائق الفكر والحياة»
هكذا فإن الكتابات ثنائية القارئ هي كتابات شخصية مجاملة، تعاني من فقر الفكر وفقر الإبداع، وتخلو من الصدق الأدبي والحياتي، وتخالف صفة الأمانة التي تتصف بها كل كتابة ناجحة. ولعل الكتاب المتميزين هم من يحرصون على أن تكون كتاباتهم كافة ذات طابع إنساني وعقلاني، تتوجه إلى جميع القراء، لا إلى شخص بعينه، أو جهة بعينها؛ لأن في ذلك ما يضمن أن تكون متعددة القراءات، وعالمية عابرة للحدود والثقافات.






