بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في الأردن، لا تحتاج السخرية إلى خيالٍ واسع، فهي تعيش بين الناس كما يعيش الهواء، وتطلّ برأسها في كل مشهدٍ عامٍّ كأنها ضريبة الواقع. وها هي البلاد تقدّم عرضها الأخير في مسرح العبث؛ إذ اجتمعت صلاة الاستسقاء وحفل هيفاء وهبي في ليلةٍ واحدة، لتصبح السماء والناس معاً في حيرةٍ وجوديّةٍ عظمى: أيتنزّل المطر على دعاء الخاشعين أم على أنغام “بوس الواوا”؟
كانت المنابر في الصباح تستدرّ الغيث، وتستعطف السحاب بكلماتٍ مبللةٍ بالرجاء، فيما كانت المنصّات في المساء تستعدّ لتُسقي الجمهور دفئاً من نوعٍ آخر؛ دفءُ الأضواء، والعطور، والأصوات التي تُطبّب الجراح العاطفية وتنعش القلوب اليابسة من طول الانتظار. وبين الدعاء والغناء، ضاعت البوصلة، وتاه الغيم بين المحراب والمسرح.
مشهدان متوازيان في الزمان والمكان، متناقضان في كل شيء. هناك، على الأرض المتشقّقة، سجادٌ بلّلته دموع الرجاء، وقلوبٌ تتضرّع طلباً لرحمة السماء. وهنا، على المسرح المضيء، أقدامٌ تتراقص، وأضواءٌ تخترق الهواء كأنها تستدرّ المطر بالليزر! وكأنّ البلاد تقول: “اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً… أو حفلاً مبهجاً، أيّهما أقرب استجابةً!”.
الحكومة، تلك التي أتقنت فنّ إدارة المتناقضات، لم تجد في الأمر بأساً. فالمناخ عندها ليس ظاهرةً جوية بل “برنامجاً وطنياً متنوعاً”، يزاوج بين الدعاء والدي جي، بين الخشوع والفرجة. وزارةٌ تدعو إلى صلاة الاستسقاء في الصباح، ووزارةٌ أخرى تُصدر تصاريح لحفلٍ صاخب في المساء، وكأنها تؤمن بأن التوازن المناخيّ يتحقق حين يجتمع التبتّل والغناء في الأسبوع ذاته.
الشارع الأردني، بطبيعته الساخرة حتى من حزنه، لم يترك المشهد يمرّ دون تعليقٍ ساخرٍ يسيل مرارةً وضحكاً معاً. امتلأت المنصّات الرقمية بالتهكّم اللاذع: البعض قال إن المطر لن يهطل حياءً من المشهد، وآخرون تساءلوا إن كان الغيم قد تردّد في المجيء خوفاً من أن يُتَّهم بانحيازه لأحد الطرفين، بينما تساءل ثالثٌ مازحاً: “هل سيُدرج المطر ضمن جدول الفعاليات الرسمية؟”.
لقد رأى الأردنيون في هذه الحادثة تجسيداً دقيقاً لمفارقات حياتهم اليومية، حيث تمتزج الجدّية بالعبث، والدعاء بالتصفيق، والرجاء بالعرض الفنيّ. ففي الوقت الذي يرفع فيه الناس أكفّهم للسماء طلباً للماء، ترفع مكبّرات الصوت أنغامها إلى السماء ذاتها، علّ الغيم يرقص بدلاً من أن يمطر.
وهكذا بدت “حكومة المحراب”، التي تضرّعت للغيث في الصباح واستدرجت “هيفاء” في المساء، وكأنها تجمع بين الولاية الشرعية واللياقة الفنية، تؤمن أن المطر يمكن أن يُستجلب بقدرٍ من الخشوع ومقدارٍ مماثل من الإبهار الضوئي. حكومةٌ تصلّي بتعميمٍ رسميّ، وتغنّي بتصريحٍ مختومٍ بأنغام السياحة وبركات الأوقاف، مطمئنةً أن في الجمع بين الرجاء والإيقاع “تنويعاً ثقافياً” لا يضرّ.
أما الشعب، فقد وقف مذهولاً أمام هذا المشهد المسرحيّ العظيم، لا يدري أيرفع يديه للسماء أم للهاتف. بين سجادة الصلاة ومنصّة الحفل، توزّعت الأرواح بين الخشوع والانبهار، وبين الاستغفار والتصوير. فالمصلّي يهمس “اللهم اسقنا”، والمغنّية تهمس “يا حياة قلبي”، وكلا الهمسين يصعدان إلى السماء في وقتٍ واحد، لعل الغيم يفهم من السياق المقصود.
إنها المفارقة الأردنية الخالدة؛ بلدٌ يطلب المطر بلسانٍ ناشفٍ، ويغنّي للعشق بصوتٍ مبحوحٍ من العطش. بلدٌ تشتبك فيه الصحراء بالنيون، والخشوع بالتصفيق، والجدّ بالهزل، حتى يصبح كل حدثٍ رسميٍّ نسخةً مصغّرةً من العبث المتقن.
لقد برهنت هذه الواقعة أن السماء لا تُستدرج بالتصاريح، ولا تُقنعها العناوين الإعلامية. المطر لا يهطل احتراماً للحفلات، ولا استجابةً للنشرات الوزارية، بل لقلوبٍ صدقت في رجائها. أما حين تختلط الأصوات بين دعاء الخاشعين وأنغام الراقصين، فربما ترتبك السماء وتُؤجّل استجابتها لحين اتّضاح الموقف.
وفي النهاية، تبقى الصورة معلّقةً في ذاكرة الأردنيين: محرابٌ يلهج بالدعاء، ومسرحٌ يلهب الأجواء، وحكومةٌ ترعى كليهما باسم “التنوع”. ويبقى السؤال الأكثر تهكّماً معلقاً كغمامةٍ تائهةٍ في الأفق: هل سيهطل الغيث بعد “بوس الواوا”، أم أن السماء — مثلنا — ما زالت محتارة بين الغناء والاستغفار؟






