التوجيه الإستراتيجي لجلالة الملك إستشراف للمستقبل “المدلول والمآلات”
* د. رضا البطوش
19 / 2 / 2021
قبل بضعة أشهر كتبت مقالة هنا على هذا الموقع موضع الإعتزاز تحت عنوان النهج القائم وضرورات التغيير “إفعلها يا جلالة الملك”، وقد كتبت بقلبٍ مفعمٍ بالحبِ والولاءِ المطلق للوطن وقيادته الهاشمية عزّ نظيره، فقد تعودت على متاعب المصداقية فالوطن وقيادته العظيمة يستحقان التضحية، هذا ما تعلمته في المؤسسة الأعز “المؤسسة العسكرية”. كتبت منطلقاً من قناعات تولدت نتاج الخبرات التي تراكمت لدي طوال السنين بأن النهج القائم في إدارة الدولة إذا ما استمر سيكون له كُلَفه الكبيرة على استمرارية وديمومة الدولة في ظل بيئة استراتيجية بالغة التعقيد وسريعة التغيّر والفقر في الموارد، وفي ظل عدو متربص يسعى وبكافة السبل إلى حل القضية الفلسطينية على حساب الوطن، حيث أن الملف الفلسطيني لم يغلق بعد، وأيضاً منطلقاً من قناعات راسخة بأن القيادة الهاشمية هي صمام الأمان للوطن الحبيب إذا أردنا له أن يكون الصخرة التي تتحطم عليها عاديات الزمن ومحن الأيام، قناعات تؤمن بأن العبور الآمن نحو المستقبل لوطننا الحبيب وشعبه الطيب هو بالقيادة الهاشمية وحدها وهي أهل لذلك وهي سر البقاء لنا في منظومة أمننا الوطني تفتديها المهج والأرواح.
وفي أطار التوجيه الإستراتيجي الذي أدهشنا به جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه من خلال رسالته الملكية السامية إلى عطوفة مدير المخابرات العامة نستطيع القول بأن هذا التوجيه الإستراتيجي لجلالة الملك هو علامة فارقة في بنائنا السياسي والمُنْطلَق الأساس لعملية تحول إستراتيجي هادف في المئوية الثانية للدولة، يؤطر لدولة المؤسسات والقانون في ظل الدستور والتشريعات الناظمة للحريات العامة وتلازم السلطة والمسؤولية، لقد اثبت هذا التوجيه الإستراتيجي في هذ التوقيت العصيب الذي يمر به وطننا الحبيب في ظل التحولات الدولية والإقليمية الخطيرة بأن الوطن بخير وسيبقى رغم كل الظروف القاسية التي يمر بها، وسيبقى الهاشميون منارات يهتدى بها رغم أنف الحاقدين.
ثمة قضايا تندرج في إطار المصلحة الوطنية وديمومة الوطن واستمراريته والتي تتطلب مستوى عالٍ من شفافية الحديث فيها والأخذ بها على محمل الجد دعماً للتوجهات الملكية في إطار التوجيه الإستراتيجي لجلالة الملك في رسالته الملكية السامية وتصريحاته مؤخراً في مقابلته مع وكالة الأنباء الأردنية أُجْملها في المحاور التالية:
المحور الأول (الإصلاح الإداري)
كان من نتاج تصدي دائرة المخابرات العامة (درة المؤسسات فرسان الحق والقلب النابض للوطن) لملء الفراغ الخطير الناشئ عن عدم امتلاك بعض المؤسسات صاحبة الاختصاص الأصيل، للقدرة على النهوض بمسؤولياتها واختصاصاتها التي أشار اليها جلالة الملك في الرسالة الملكية تَشَكُل ثقافات تنظيمية في مؤسسات الدولة تتوائم وهذه الرؤية مما اضعف آلية صنع القرار في هذه المؤسسات وأدى الى ترهلها وتراجع في أدائها وفي مجمل ذلك أدى إلى إفساد مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية الذي قاد إلى الترهل الذي نشهده في الإدارة العامة للدولة، حيث تطور الأمر إلى تغول على السلطة من جانب يقابله مجاملات على حساب الصالح العام مقابل منافع شخصية كنتيجة متوقعة لتشكل هذه الثقافات. الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في إجراءات العمل في كافة مؤسسات الدولة والتي سيتمخض عنها حتماً هياكل تنظيمية تعزز من سبل النجاح للتوجيه الملكي ويبعث الحياة المتجددة في المؤسسات العامة ويعزز المشاركة والتنافس على الإنجاز وزيادة مستوى الرضا الوظيفي والإنتماء المؤسسي والإحساس بالمسؤولية المجتمعيّة والوطنيّة، وتخليص المجتمع من الأمراض المجتمعيّة الضّارة وفي مقدمتها الواسطة والمحسوبية ليحل مكانها تدريجياً الإيمان بمبادئ الإدارة الرشيدة، وتعزيز وتنمية قيمنا الوطنيّة التي تتربّع على رأس الهرم الوطني في التخطيط الإستراتيجي للدولة وتُبنى ويحافظ عليها كأولوية في هيكلية التخطيط والإهتمام من خلال نهج التخطيط الإستراتيجي السليم لعقل الدولة والذي تناط به المسؤولية المباشرة في إدارة شؤون الدولة.
فكرة اللامركزية في الدولة الأردنية ليست طارئة، فقد كانت حاضرة دائماً في أذهان أصحاب القرار والمشرعين الأردنيين منذ قيام الدولة، وذلك ضمن مفهوم (اللامركزية الإدارية) القائمة على فكرة اعادة توزيع السلطة والمسؤولية والموارد المالية من اجل تقديم الخدمات العامة ضمن مستويات مختلفة من الحكم المحلي، حيث أناط دستور 52 بالمجالس البلدية أو المحلية مهمة إدارة الشؤون البلدية والمحلية وفقاً لقوانين خاصة، وذلك خلافاً لقانوني البلديات العثماني والإنتدابي اللذان عكسا درجات شديدة من المركزية، وبهذا فقد اعتبر هذا النص الدستوري في حينه نقلة نوعيه للإدارة الأردنية، وبما عكس الطبيعة المنفتحة والمتقدمة للنموذج الهاشمي في الحكم. ومن الناحية النظرية فإن الهياكل الإدارية للبدء بتطبيق مفهوم (اللامركزية) على مستوى الحكم المحلي هي موجودة أصلاً، لكنها بحاجة إلى مراجعة متأنية ودقيقة يتم من خلالها مراعاة متطلبات الدولة الحديثة في بيئتها الإستراتيجية السائدة وبما يحقق الأمن الوطني بمفهومة الشامل، حيث ان الواقع الصعب الذي تعيشه الإدارة المحلية كنتاج لواقع صعب آخر تعيشه الإدارة العامة في الدولة الأردنية جعل من المستحيل تطبيق هذا المفهوم اي (اللامركزية)، ففي غياب الكفاءات القادرة على تنفيذ البرامج الحقيقية لا الرمزية او عدم القدرة على توظيف هذه الكفاءات إن وجدت سنستمر في فقدان الأمل برؤية الضوء في نهاية النفق، وستتعمق الفجوة بين الإدارة العامة المركزية والإدارات المحلية والمواطن بسبب تراجع مستويات الخدمة التي تقدمها هذه الإدارات، وفي خضم هذا الواقع المؤلم جاءت الحكومة بقانون اللامركزية والذي جاء للأسف ليخلق هياكل تنظيمية تتداخل في الصلاحيات مع الهياكل التنظيمية الموجودة أصلاً، اللامركزية مفهوم إداري بمنتهى البساطة يتم من خلاله تفويض بعض صلاحيات الحكومة المركزية للمستويات الأدنى في الهيكل التنظيمي للحكومة وأقصد بها هنا المحافظ ومؤسسته، الأمر الذي فاقم من حجم المشكلة.
إن العبث في التعليم وعدم العمل على إستقراره، لعب في النار وعبث في ركائز الدولة يهدد أمننا الوطني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إن التعليم هو الأساس في نهضة الأمم وتقدمها وتسيسه بالطريقة التي وصلنا اليها سيدمر أرث بناه الأردنيون بعرق جبينهم.
المحور الثاني (الإصلاح السياسي).
الإصلاح السياسي مطلب شعبي بإمتياز طال انتظاره، إلا أن مفهوم التنمية السياسية لدينا للأسف مفهوم غامض لا وجود له على أرض الواقع، ولا يوجد إرادة في هذا الجانب على الرغم من وجود وزارة معنية في هذا الشأن، ولكي يتحقق النجاح في هذا المحور فإن الضرورة تتطلب أن تعمل مؤسسات الدولة المعنية بكل شفافية ومصداقية في تنفيذ تصريحات جلالة الملك عبدالله الثاني مؤخراً في مقابلته مع وكالة الأنباء الأردنية والمتعلقة بتطوير التشريعات الناظمة للحياة السياسية كقوانين الإنتخاب والأحزاب والإدارة المحلية، فلا يعقل أن تدخل الدولة الأردنية مئويتها الثانية وقد أخفقت مؤسساتها الوطنية وفشلت فشلاً ذريعاً في التنمية السياسية، والتي كان نتاجها أحزاب متهالكة ومتنفّعة تستمد مسمياتها في معظمها من الخارج وإن وجد يتم استهدافه لإخراجه من المشهد السياسي، وللأسف كنّا نعزز الفشل في هذا الإطار.
المحور الثالث (الإصلاح الاقتصادي).
في هذا المحور سبق وأن كان لي رأي عند إقرار الحكومة السابقة للقانون المعدل للضريبة سيء الذكر في بداية تشكيلها بأن على الحكومة التي أقرته أن ترحل، فلا يعقل حينه والدولة تنتظر ولوج مئويتها الثانية أن تستمر حكوماتها المشكلة في التخبط في ملف السياسة الإقتصادية وإدارة أذرعها المتمثلة في السياسات المالية والنقدية وما آلت اليه هذه السياسات من سحق للطبقة الوسطى، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وارتفاع أرقام المديونية لنسب خطيرة.
إن إقرار قانون الضريبة المعدل بصورته الحالية أدخل الوطن في نفقٍ مظلم، وسيكون له انعكاساته السلبية على أمننا واقتصادنا الوطني على المدى البعيد، وهو دليل صارخ على إفتقار الإدارة العامة في الدولة إلى القدرة على صياغة سياسة مالية وسياسة نقدية في مئويتها الأولى يستطيع الوطن من خلالهما أن يخرج من أزمته الإقتصادية في ظل ظروف إقليمية ودولية في غاية الخطورة، كيف لوطن ان ينمو ويزدهر في ظل سياسة مالية عقيمة تتبنى سياسة ضريبية جائرة على حساب الإدخار على مستوى الفرد والمؤسسة الإقتصادية مُحاربة في ذلك الإستتثمار في المشروعات الصغيرة بأبسط اشكالها، وكيف لوطن ان ينمو ويزدهر في ظل سياسة نقدية عقيمة ترفع سعر الفائدة على القروض البنكية الأمر الذي يحد من السيولة النقدية ويحارب الإستثمار على مستوى الفرد والمؤسسات الإقتصادية في المشاريع الصغيرة بأبسط اشكالها ايضاً، وللأسف جاءت جائحة COVID-19 لتحرق الأخضر واليابس بعد كل هذه الخيبات، لقد آن الأوان أن تعيد الحكومة النظر في سياساتها المالية والنقدية.
ان الإصلاح في هذا المحاور يستدعي الإعداد المناسب لمشاريع القوانين الناظمة للحياة السياسية والتي جاءت في سياق تصريحات جلالة الملك عبدالله الثاني مؤخراً في مقابلته مع وكالة الأنباء الأردنية، والتوجيه الإستراتيجي لجلالة الملك من خلال الرسالة الملكية لمدير المخابرات العامة، والفشل في ذلك سيفت في عضد الملك ويشكك في مصداقية التوجهات الملكية ويعرض الوطن للخطر، وعليه فلا بد من إستراتيجية وطنية صادقة، ضمن ضوابط هرمية التخطيط الإستراتيجي الشامل للدولة، تؤطر لمسارات متوازية ومتوازنة تحقق الأهداف المرجوة من توجيهات جلالة الملك حفظه الله ، وتلغي نهج الإقصاء والإستهداف للشخصيات الوطنية الوازنة ونهج التوريث في المناصب لصالح نهج الأكثر كفاءة وأقل مطواعية للفساد تحت مظلة الدستور والثوابت الوطنية وبما يحمي نظامنا السياسي العظيم، وأن يسبق ذلك كلّه مُصَالحة وطنيّة تستوعب الشعب بكل فسيفسائه. سيكون لقوى المعارضة صوتاً مسموعاً في المجتمع، انه خيارنا سواء اكانوا يقومون بذلك ضمن نسيجهم الإجتماعي او يتم اجبارهم على القيام بأعمال تسيئ الى الوطن خارجياً ، ان فرص التعليم ، التمثيل السياسي ، الفرص الإقتصادية والرفاه الإجتماعي هي وسائل للسماح لهذه الأصوات بالمشاركة، وفي هذا السياق فإن مبدأ تحقيق أهداف السياسة بوسائل أُخرى من قبل أعداء الأمة واستنساخ القاتل الاقتصادي بقاتل من نوع آخر لتهديد مركز الثقل في الدولة قضية في غاية الخطورة على مؤسسات الدولة أن تتنبه لها.
حمى الله الوطن وقياده الهاشمية الملهمة وشعبنا الطيّب العظيم
* لواء متقاعد مدير الاستخبارات العسكرية السابق ونائب سمو مدير المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات السابق.