طفولة للبيع .. أمام صمتنا

27 ثانية ago
طفولة للبيع .. أمام صمتنا

بقلم المهندس باسل قس نصر الله

صُعقتُ حين قال لي الطفل، وهو يحمل بيده علبة محارم صغيرة:
“عم جيب مصاري لأهلي”.

طفل لم يتجاوز العاشرة، يتيم الأب، يقف قرب المراحيض في أحد المطاعم، يمدّ يده بخجل، فتمنحه بضع ليرات لتُسكت ضميرك مؤقتاً.

نظرت إليه، فرأيت وجهاً أنهكته الحياة باكراً، وعينين لا تشبهان الطفولة بشيء.

ذلك الطفل مكانه في المدرسة، بين الحروف والأحلام، لا على الأرصفة وبين أبخرة السيارات.

مكانه في دفء الصف لا في برد الممرات.
أين العقد الاجتماعي الذي يربطنا كمجتمع؟

أين الدولة التي تحمي مستقبلنا بحماية أطفالنا؟

تتركهم في الشوارع وعندما يكبرون تقبض عليهم بعد أن يتحولوا إلى الإجرام والدعارة

ليس هذا ما أراده الله حين قال:
“وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”؟
فالقوة برأي الكثيرين ليست في السلاح وحده، بل في العلم والكرامة والعدالة.

نعم … إنه الفساد.

ليس الفساد هو الذي نحصره في الرشوة فقط.

الفساد هو أن نرى المأساة فنسكت، وأن نبرّر التقصير بالظروف، وأن نعتاد على وجعٍ لم يَعُد يهزّنا.

ليس الموظف المرتشي وحده فاسداً، ولا الذي يستغلّ الوطن لمصلحته فقط.

الفساد لا يكون فقط في الصحفي الذي يبتزّ الناس، وفي رجل الدين – من أيٍّ مذهب كان – الذي يبني مجده باسم الله، أو في المسؤول الذي كان يسكن برجاً عاجياً ويعتبر الشعب نعاجاً، وفي المدير الذي كان يساوم موظفيه على “الشهريات”.

هل زرتم أحزمة الفقر التي تحيط بالمدن السورية؟

هل رأيتم الأولاد الذين يمسحون زجاج السيارات عند الإشارت الضوئية؟ وبائعات المحارم الورقية أو ربطات الخبز؟

هل أسمعنا صوتنا جميعاً نتكلم عن الفقر المخيف في بلدنا؟

لذلك نحن فاسدون، لأن أخطر أنواع الفساد هو صمتنا نحن.

“ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه”، و “قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل” (ص)

أليس هذا الطفل من اليتامى والمساكين؟

نحن نتفنّن في طعامنا وسهراتنا، وننسى أننا في زمنٍ يحتاج بناء الإنسان قبل بناء الحجر.

نحتاج أن نُعيد للضمير صوته، وللمسؤولية معناها.

فما أكثر الجمعيات الخيّرة، لكن صوتها لا يكفي وحده -وقد زرتُ المبرة الإسلامية في حلب والتي تعمل المستحيل لأجل هؤلاء الأطفال – ولكن المجتمع كله مسؤول.

قال النبي ﷺ:
“كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”،
و”من رأى منكم منكراً فليغيّره …”

فهل بقي فينا من يغيّر؟

إن ازدياد الفقر والبطالة واتساع الفوارق الاجتماعية ليست أرقاماً عابرة، بل إنذارٌ بأننا نُفرّط بإنساننا.

فحين يبيع الأطفال طفولتهم، نشتري نحن صمتنا ونخسر المستقبل بأيدينا.

اللهم اشهد بأني قد بلّغت