البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
في هذا الزمن من التاريخ، تتسابق القوى العالمية لتصدير فائض قوتها خارج حدودها، من واشنطن إلى بكين، ومن موسكو إلى تل أبيب. القوة لم تعد مجرد أسلحة متطورة فقط، بل القدرة على التحكم بالأسواق، والدولار، ومصادر الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الدقيقة، وحتى المنصات الرقمية التي تعيد تشكيل وعي المجتمعات. المعادلة العالمية اليوم واضحة، فائض قوة في يد أقلية صغيرة، وأغلبية غارقة في فائض أزمات.
الشرق الأوسط، بألغازه وبحكم موقعه وثرواته وخرائط أزماته، لم يكن يومًا بعيدًا عن هذا الفائض، بل كان دائمًا المسرح الأكثر هشاشة، والأكثر عرضةً لأن يكون ساحة مفتوحة، وغالبًا ما تلقّى ضرباته بدلًا من أن يصنعها، وتتناوب القوى على استنزافه بدلًا من أن يكون لاعبًا رئيسياً. مما حول المنطقة إلى مختبر دائم لتجارب القوى العالمية، من الحروب بالوكالة، إلى لعبة الطاقة، وإلى إعادة تشكيل التحالفات.
ميكافيلي، الذي قال يومًا “القوة وحدها لا تكفي، المهم كيف تُدار”، وهذا بالضبط مأزق الشرق الأوسط، حيث فائض النفط في الخليج لم يحمِ المنطقة من الهزات، وفائض الأيديولوجيا في إيران صنع نفوذًا لكنه كلّفها أثمانًا باهظة، وفائض السلاح في إسرائيل، ضمن الردع، لكنه عمّق العزلة، لم يجلب لها أمنًا واستقراراً، وكذلك تركيا، التي لديها القوة، الا انها تعاني من الانقسام وضعف في الاقتصاد، ومشتتة بين الشرق والغرب.
الشرق الأوسط يقدّم أمثلة صارخة، لكيفية استخدام فائض القوة الخارجي، حيث دمّر لبنان، وأغرق مصر بالديون، وقيّد تركيا رغم قوتها.
في قلب هذا المشهد، يقف الأردن، الصغير بحجمه الجغرافي، والفقير بالموارد لكنه كبيرة بحجم دوره الاستراتيجي، كالسيف المسلول، في محيط يموج بالعواصف، ويتأرجح بين ضغط الخارج وتعقيدات الداخل، الا انه وخلال أكثر من قرن حافظ على وجوده كنموذج مختلف، وسر بقائه ليس الثروة ولا السلاح، بل فائض المناعة السياسية، مما جعله عصياً على الانكسار.
وهنا يظهر السؤال، هل يبقى الأردن، مجرد واحة استقرار يستهلك فائض قوة الآخرين؟ وهل يستطيع تحويل هذا الفائض الرمزي إلى فائض قوة فعلي يحمي المستقبل؟ وهل يتمكن من فرض معادلة جديدة في المنطقة؟ وأين يقف الأردن من كل ما يجري من حوله؟
وللإجابة على الأسئلة السابقة، الأردن اليوم مكشوف أمام رياح فائض القوة، أزمات اقتصادية مرتبطة بالديون، وبطالة مرتفعة، وهجرة عقول، ونخب سياسية واقتصادية تحتمي بمواقعها وكأنها ملكيات خاصة، وترسّخت فيها لعقود، قدمت فائض من الشعارات بلا سياسات فعلية، وانتجت فائض من الغضب الصامت، وعزلة بين المجتمع وصناع القرار من القيادات (النخب)، وتعمقت معهم الازمات، خلقت فجوة ثقة متنامية بين المجتمع والدولة. سياسيًا، لم تنجح الأحزاب حتى الآن في التحول إلى قوى إنتاجية حقيقية، بل بقي بعضها أسير أيديولوجيات متكلسة أو مصالح ضيقة تستغل القاعدة الشعبية لزيادة الغضب الاجتماعي كوقود لمشاريعها، ولتحقيق مكاسبها الخاصة. في ظل كل ذلك، جاءت النتيجة، مجتمع محاصر بالضغوط المعيشية، وافق اصلاحي غير واضح، ومزاج سياسي شبه مأزوم وبلا بوابة للتصريف، ويتأثر يوميًا بما يحدث في فلسطين، الا انه صامت خوفاً على الوطن، وهنا يكمن الخطر.
هذا الانفصال بين الدولة والمجتمع يذكّر بما كتبته حنّة أرندت “حين ينفصل الشعب عن النخب، تصبح القوة مجرد قشرة هشة تنهار عند أول اختبار”. وهو سؤال يواجه الأردن اليوم، هل فائض الصمود الذي يملكه هو مصدر قوة أم مجرد مناورة تخفي وراءها ما لا نعلمه؟
في ظل هذا المشهد المليء بالتناقضات، يبقى الملك، صمام الأمان، ومهندس التوازن لحماية الدولة من فائض القوة العالمي، والضامن لمنع انزلاق الأردن إلى مصير مشابه لبعض جيرانه. الملكية لم تكن مجرد عنوان سياسي، بل كانت الجدار المنيع أمام انهيار الدولة الوطنية. لكن الحماية الملكية وحدها لا تكفي، فالتاريخ علّمنا، إذا لم تتجدد مؤسسات الدولة، ولم تُكسر حلقة بعض النخب الفاشلة، فإن الملك شخصياً سيبقى مضطرًا لحماية دولة تُستنزف من الداخل، في نفس الوقت الذي يعمل فيه على خلق التوازن الدولي لحماية مصالح الدولة العلياء من فائض القوة العالمي، ولصناعة فائض قوة خاصة بالأردن، لكيلا يبقى الأردن مجرد ساحة لتلقي فائض قوة الآخرين.
الدروس الإقليمية ماثلة امامنا، لبنان لم يتحول إلى دولة عاجزة بين ليلة وضحاها، بل بتراكم أزمات مزمنة، ومصر لم تُثقل بالديون فجأة، بل عبر سنوات من التردد والمعالجات المؤقتة، وتركيا، رغم قوتها، وجدت نفسها في أزمات عميقة بسبب حسابات خاطئة في مواجهة ازماتها. الرسالة واضحة، غياب الإصلاح الداخلي يقود إلى عواقب مجهولة، مهما كانت عناصر القوة الظاهرة.
مع ذلك، يمتلك الأردن أوراقًا مهمة، موقع جغرافي استثنائي يجعله لاعبًا لا غنى عنه، استقرار نسبي في محيط ملتهب، وشرعية قيادية رسّختها عقود من البقاء وسط العواصف. لكن هذه الأوراق وحدها لا تكفي، فالمطلوب تحول نوعي، من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج، وعقد اجتماعي جديد بمشاركة مجتمعية أوسع، واستراتيجية تجعل من الموقع الجغرافي ورقة ضغط لا عبئًا دائمًا. وإذا قدر له ان ينجح في تحويل فائض استقراره الداخلي الذي صنعه بحكمة قيادته، وعرق أبنائه، إلى مشروع وطني جامع، وقوة حقيقية، فإنه قد يصبح الدولة الصغيرة التي تكسر معادلة الشرق الأوسط، وبخلاف ذلك فسوف يكون مجرد ساحة لتلقي فائض الآخرين، التاريخ لا ينتظر المترددين.
الوقت ليس في صالح الأردن، الصراع الأميركي الصيني التكنولوجي والجيوسياسي يتسارع، إسرائيل وإيران وتركيا تتنافس على النفوذ، والخليج يواجه ضغوطًا متزايدة من القوى الكبرى، وامنه أصبح مهدداً. في هذا السياق، تتعاظم الضغوط العالمية التي تريد للأردن ان يكون مجرد ساحة لتصفية الحسابات، وتسعى لتوفير الظروف الداخلية بكل قوة، وبالتالي أصبح في غاية الضرورة تحصيّن الداخل والتخلص من عبء النخب الرخوة التي تبيع ولاءها عند الطلب وتشتري نفوذها بالنفاق بدل الكفاءة، وصنعوا ازماته الداخلية، ومن الايدولوجيات (التي تمتلك فائضًا من الخطابات المستهلكة)، وإلا فإن فائض القوة العالمي سيجد طريقه الى الأردن.
ورغم كل ذلك، ثمة نافذة أمل، الأردن يمتلك مناعة سياسية فريدة، وإرادة ملكية واضحة لنقله من فائض الصمود السلبي إلى فائض القوة الإيجابي، ومن فائض الشعارات إلى فائض الفعل.
والتاريخ يذكّرنا أن فائض القوة لا يبقى دائمًا في يد من يملكه، الإمبراطوريات سقطت حين أساءت استخدام قوتها، فيما صمدت دول صغيرة لأنها أتقنت فن التوازن والبقاء.
الأردن، في لحظته الراهنة، يقف أمام هذا الدرس بكل وضوح، فهل يتحول إلى ضحية جديدة لفائض القوة العالمي؟، أم سيصنع لنفسه موقعًا مختلفًا عبر الاستثمار في الداخل وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع؟
الجواب لم يُكتب بعد. لكن ما هو مؤكد أن الملك يقف في الواجهة، ويحاول أن يجعل من فائض الاستقرار ورقة قوة في زمن تُستهلك فيه الدول كما تُستهلك السلع. فالأردن ليس صغيرًا كما يُراد له أن يكون، ولا كبيرًا بما يكفي ليبقى في مأمن، الا ان أمامه فرصة أن يُحوّل فائض رمزيته واستقراره إلى مشروع وطني جامع يشكل قوة حقيقية، ويحصّن الدولة من الرياح العاتية، ويمنحه موقعًا فاعلًا في معادلات المنطقة، لكيلا يصبح ضحية لفائض قوة الآخرين، والوقت لا ينتظر.
الأردن بين الاستقرار وفائض القوة
