بقلم زيد أبو زيد
كتب جلالة الملك عبد الله الثاني في الورقة النقاشية الرابعة: ” ومن أهم متطلبات التحول الديمقراطي تعزيز المجتمع المدني ودوره في مراقبة الأداء السياسي وتطويره نحو الأفضل، عبر ترسيخ الثقافة الديمقراطية في المجتمع وهذا هو صلب هذه الورقة النقاشية الرابعة؛ إذ إنها تتزامن مع إطلاق جهد جديد من المؤمل أن يعزز من إسهام مجتمعنا المدني في بناء نموذجنا الديمقراطي، عن طريق الشروع في وضع اللبنات الأساسية للثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا المحلية، ليكون التغيير الديمقراطي حقيقة ملموسة على جميع المستويات”.
وكتب جلالته أيضًا: “إن تقدمنا على طريق إنجاز نموذجنا الديمقراطي سيتحدد بقدرتنا على عبور محطات محددة، تؤشر على تقدم ونضوج سياسي حقيقي وملموس، وليس مواعيد نهائية مسبقة أو عشوائية. وعلى امتداد طريق التنمية السياسية والتحول الديمقراطي الذي نسلكه، بما يتخلله من نجاحات وإخفاقات، سيكون التزامنا المشترك بالممارسات الديمقراطية الراسخة هو ضمانة النجاح في مواجهة مختلف المعيقات. ويشكل مبدأ الالتزام والمشاركة جوهر (المواطنة الفاعلة) التي تعرضت لها في أوراقي النقاشية السابقة، والتي سأركز عليها في هذه الورقة، كشرط أساسي لتحقيق التحول الديمقراطي”.
من هنا وقبل الخوض في خطاب الإصلاح السياسي الذي يوجه جلالة الملك إلى صياغته في مشروع وطني ديمقراطي، وللمهتمين في التعمق في هذا الشأن أود أن أورد ما يعبر عنه مفهوم النظام الديمقراطي، وهو النظام الذي تكون فيه السلطة العليا للشعب، حيث يمارس الشعب سلطته عن طريق مواطنين يمثلون الشعب يُختارون عن طريق نظام انتخابي، إذ إنّ الديمقراطية تعني مجموعة من الأفكار التي تدور حول الحرية، ويمتلك النظام الديمقراطي كثيرًا من الإيجابيات أهمها: مصالح المواطنين، وعدم احتكار السلطة على فئة معينة من فئات المجتمع، وتعزيز المساواة بين المواطنين كافة، وجعل الإدارة أكثر مسؤولية واستقرارًا، والشعور بالالتزام تجاه المواطنين، إضافة إلى ضمان التعليم وجعل المواطنين صالحين، وتعزيز تبادل الحكومات والمواقع في الدولة.
والديمقراطية، وهي أساس النظام الديمقراطي تتضمن الحرية، وهي ليست مجرد كلمة بل هي مضمون يعبر عن حلم داعب خيال الشعراء والمفكرين كثيرًا، لأنها تجسد مفاهيم الحرية عمليًّا، ونماذج الديمقراطية ليست وثنًا يُعبد كما يروج بعض منظري هذه النماذج؛ لأنهم يَدَّعونها، بل إنهم يعدون نماذجهم مثالًا وتعبيرًا عنها، ولكنَّ جوهرها وسيلة لضمان الوصول إلى الحرية الثقافية والروحية والسياسية والاجتماعية، وبذلك فإن ما لا يضمن ذلك لا يمكن أن يسمى ديمقراطية، والحقيقية المطلقة أن الديمقراطية هي حكم الشعب بوساطته ولمنفعته، وعبر الشكل الذي يقرره في إطار عالم تسوده العدالة والمساواة وتحكمه القيم.
وإذا كانت الديمقراطية تقول إن الحكم فيها للشعب، فقد تعددت النظم السياسية التي تقول بذلك، وإن كان بينها خصائص مشتركة، واستنادًا إلى ذلك فمن الخطأ إذًا تعريف الديمقراطية بأنها النظام الذي تتَّبعه أي دولة؛ وعليه يكون من حقنا أن نختار ما يحقق المبادئ والقيم السياسية المناسبة لهويتنا وواقعنا، وبما يحقق الحرية للإنسان بوصفها جزءًا من المجتمع الذي تتوحد فيه الهوية والسلطة، وهذا ما يحدده شكل الديمقراطية بوصفه مصدرًا لقوة الفرد والمجتمع، ويتم ذلك عبر عقد اجتماعي في إطار الدولة يرتضيه الشعب بجميع مكوناته.
ولأن الديمقراطية منهج حقيقي للتغيير، وطريق صائب يبقي النظام السياسي متماسكًا وقادرًا على التعاطي مع المستجدات، وعاملًا حيويًّا للعطاء المستمر، وإذا كانت سلطة الشعب وحكمه ليسا قياسًا على تلك الممارسة العملية في جعل الشعب يختار ممثليه في البرلمان عبر ما يسمى بالانتخابات، وتعيين نوع الحكم، واختيار من يحكم، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية؛ في حالة من مداورة الرأي غير القائم على العدمية السياسية التي وضعت شكلًا للمعارضة الدائمة في بعض النماذج من دون التمحيص في صوابية المعروض من الآراء أو الأفكار أو التشريعات، وبذلك تنتفي صوابية نسبية المفاهيم، مع أنها أساس الفكر الديمقراطي.
إن الديمقراطية التي نريدها ضمن هذا المنهج النقدي هي الديمقراطية التي تضمن العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة، وتبتعد عن العنصرية والإقليمية والفئوية، وبذلك تكون شكلًا متقدمًا من أشكال الممارسة السياسية والاجتماعية، وتعبيرًا عن التطور الحضاري والثقافي للمجتمع.
والتغيير الجذري للنظام السياسي مرتبط بالتخطيط الإستراتيجي الاستشرافي لشكل النظام السياسي وكيفية الوصول إلى شكله المثالي عبر نضوجه المتدرج بحيث تكتمل فيه أركان النضوج الاجتماعي والاقتصادي مع السياسي؛ ليصلح جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وينتقل بها مرة واحدة نحو الهيكل الجديد الذي ينسجم والحرية الحقيقية، وتُشبع فيه الحاجات وتتحقق الديمقراطية بأبهى صورها، فالأمر يتعلق بتغيير ثقافة المجتمع، وتغيير المفاهيم وشكل الأنشطة السياسية والاقتصادية فيه؛ لأن التغيير ليس عملًا مؤقتًا بل صيرورة للحركة الشعبية في التاريخ، وهذا يتطلب من الجماهير الوعي واليقظة المستمرة، وعدم التغافل والتسليم بالمفاهيم الرجعية، والتسلح بفقه علمي يلغي المنهج التلفيقي والنماذج المشوهة المنقولة والمنسوخة التي لا تناسب واقعنا الثقافي والقيمي، وأحيانًا لا تناسب قضايا الصراع.
من هنا فنحن نبحث عن نموذجنا الديمقراطي الأردني الخاص بعيدًا عن نماذجهم؛ فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية المرتبطة بجائحة كورونا، وأزمة العقارات الكبرى قبل ذلك بعقود، وأزمات الأسواق المالية والنفط عدم قدرة الأنظمة الرأسمالية على الاستمرار اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بشكل سلسل، وأنها لا بد من أن تتّبع وسائل تحايلية لتتمكن من الصمود المؤقت إلى حين التمكن من وضع إستراتيجيات جديدة، ولكن هذا يدعو العالم النامي إلى التنبه لخطورة ذلك على اقتصادياتها؛ ما يتطلب منا البحث عن نموذجنا الخاص من أجل التغيير السلمي نحو الأفضل.
وهنا نجد أنه من الضروري تحديد السمة الرئيسة التي تميز فكر جلالة الملك، فقد كانت الأوراق النقاشية الملكية حالة متقدمة في الفكر السياسي الاستشرافي للمستقيل، ومؤشرًا واضحًا على شكل البناء في نموذجنا النهضوي المتكامل الأركان الذي أساسه التنافس والإبداع والتفوق في جميع المجالات، وعلى رأسها الديموقراطية الناجزة؛ لأنه من غير الممكن دخول المستقبل نحو الدولة الحديثة بكفاءة وفاعلية، واعتماد على الذات، وقدرة على التنافس في الفضاء الدولي، واستيفاء حقوق المواطنة، وتحفيز الحكومات المتعاقبة على العمل بإخلاصٍ وإبداعٍ وإنجاز من دون ديموقراطية حقيقية، وتشريعات تنظمها وعلى رأسها تداول الحكومات على قواعد البرامج الحزبية والكتل النيابية، وهذا يتطلب بالضرورة إعادة النظر في قانون الانتخاب ليكون عماده قوائم برامجية حزبية بنصف مقاعد مجلس النواب تتضمن المرأة والشباب وكوتات الشركس والشيشان والمسيحيين، وإعادة النظر بقانون الأحزاب السياسية من حيث أسس التأسيس النظرية والأهداف وعدد المنتسبين، ونظام المساهمة المالية، والسماح بتقديم التبرعات للأحزاب من الشركات والمؤسسات والأفراد، والسماح بإعفاءات ضريبية للمتبرعين، وكذلك إعادة النظر بجميع قواعد الديمقراطية وآلياتها بما يضمن عدم التداخل في عمل مؤسسات المجتمع المدني، ومنح حصانة حقيقية للمنتسبين في ضوء التزامهم بعملهم، وهو ما وجه جلالة الملك عبدالله الثاني الحكومة إلى إعادة النظر فيها بشكل عاجل، وضمن مسار حددته سابقًا الأوراق النقاشية الملكية.
إن حكومة دولة الدكتور بشر الخصاونة التي تشكلت على إيقاع جائحة وباء كوفيد19 وكاستحقاق دستوري لحل مجلس النواب، وانعقاد مجلس النواب التاسع عشر بعد انتخابات نيابية استثنائية ترتكز إلى خارطة طريق إصلاحية فصلها صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه في أوراقه النقاشية، ومعززة ومستفيدة من جزالة خطب جلالته ولقاءاته، وإننا نجد أن الرئيس بشر الخصاونة وحكومته يمكنها أن تنهض بأعباء الإصلاح السياسي مستفيدةً من تجارب وفكر مؤسسات المجتمع المدني ومجلسي الأعيان والنواب والمفكرين، وأتوقع أن تضع معالم تحركها قريبًا لصياغة مشروع الإصلاح الشامل.
حفظ الله أردننا الغالي بقيادته الهاشمية، وجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً في ظل حضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني المعظم.