محاولة فهم… جميل بثينة من العداوة إلى الحب

48 ثانية ago
محاولة فهم… جميل بثينة من العداوة إلى الحب

د. محمد عبد الله القواسمة

من المتعارف عليه في العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة أن تبدأ علاقة الحب بينهما بالإعجاب، وتنتهي باللقاء، ومن ثم الزواج، كما قرر أحمد شوقي في قوله: «نظرة فابتسامة فسلام/ فكلام فموعد فلقاء».

العجيب أن بعض تلك العلاقات تبدأ بالعداوة والخصومة، يتبادل فيها الطرفان، الرجل والفتاة الشتائم والسباب، وربما العنف، ولكن بعد مدة تطول أو تقصر، ودون تدخل من الآخرين، ينتهى الخصام، ويتحول إلى حب جارف.

في تاريخنا الأدبي، في العصر الأموي، وفي أحضان قبيلة عذرة التي عرفت بالحب الذي انتسب إليها، الحب العذري سُجلت أول علاقة حب بين فتى وفتاة بدأت بالعداوة، فتحكي كتب الأدب أن فتاة تدعى بثينة، كانت تقطن وأهلها وادي القرى بين المدينة ومكة مرت وصديقة لها بجوار إبل، ترعى في وادي بغيض بالقرب من مساكن أهلها، فضربت إحدى الإبل، وكانت الإبل لابن عمها جميل بن معمر، الشاعر الرقيق، فسبّها وسبته وتبادلا السباب والشتائم، وينتهي الأمر إلى وقوع الحب بينهما. يذكر جميل ما حدث في ذلك اليوم شعرًا:

«وأول ما قاد المودّةَ بيننا/ بوادي بَغيضٍ يا بُثينَ سبابُ/ فقلنا لها قولاً فجاءت بمثله/ لكلِّ كلامٍ يا بُثينَ جوابُ».

ومن تلك اللحظة علق جميل ببثينة وعلقت به، وصار ينظم في حبها الشعر ذاكرًا اسمها تارة واسمًا غيره تارة أخرى، حتى انتشر خبر حبهما في داخل القبيلة، وغيرها من القبائل.

تقدُّم جميل لخطبتها من أبيها، فرفض بشدة؛ فعادة العرب رفض تزويج الفتاة من فتى ذاع خبر حبه لها، حتى لو كان ابن عمها؛ خوفاً من القول أنّهم ستروا عيبًا عند ابنتهم، وأجبرها والدها على الزواج من شاب من بني عذرة اسمه نُبيه بن الأسود. ومع ذلك ظل جميل يلقاها بمساعدة صويحباتها اللائي كن يتسترن عليها من أعين القبيلة. وعندما علم زوجها بذلك شكاه للوالي، الذي هدده بإهدار دمه؛ فغادر وادي القرى إلى مصر. وكانت وفاته فيها.

تقول الروايات إن جميلًا قبل موته دعا رجلًا وأوصاه بأن يأتي جماعة بثينة من بني عذرة، وهو راكب ناقته، ولابس حلته وشاققها، وأن يعتل قمة عالية وينشد:

«صَدَعَ النَعِيُّ وَما كَنى بِجَميلِ/ وَثَوى بِمِصرَ ثَواءَ غَيرِ قَفولِ/ وَلَقَد أَجُرَّ الذَيلَ في وادي القُرى/ نَشوانَ بَينَ مَزارِعٍ وَنَخيلِ/ بَكُرَ النَعِيُّ بِفارِسٍ ذي هِمَّةٍ/ بَطَلٍ إِذا حُمَّ اللِقاءُ مُذيلِ/ قومي بُثَينَةُ فَاِندُبي بِعَويلِ/ وَاِبكي خَليلَكِ دونَ كُلَّ خَليلِ».

وقيل إن الرجل نفذ الوصية. وما إن قرأ الأبيات حتى برزت إليه بثينة وصاحت باكية، وشاركنها نساء الحي في البكاء، وبعد أن أفاقت أنشدت:

«وإن سُلوِّي عن جميل لساعة/ من الدهر ما حانت ولا حان حينها/ سواءٌ علينا يا جميل بن معمر/ إذا مت بأساءُ الحياة ولينها».

وماتت بعد ثلاثة أيام من موت جميلها.

هكذا كانت قصة الحبّ بين جميل وبثينة، لكنها تختلف عن قصص العشق التي خلدها التاريخ، مثلما قصص قيس وليلى، وكثير عزة، وروميو وجوليت وغيرها بأنها انطلقت في الأساس من السباب والشتائم؛ مما يبعث التساؤل عن سر دوام هذا الحب، وتحوله إلى عشق عظيم، على الرغم من بدايته على العنف والكراهية، وما لاقاه من صعوبات اجتماعية وحياتية؟

لعل السر «كما أرى» وجود رغبة حب دفينة لدى الطرفين، جميل وبثينة؛ فهما من قبيلة واحدة، فضلًا عن القرابة بينهما، وقد لاحت لهما الفرصة في إظهار هذا الحب بعد ضرب بثينة ناقة من إبل جميل ضربًا شديدًا.

ويبدو أن الخلاف بين جميل وبثينة أتاح لكل منهما إظهار صفاته الخلقية والنفسية للأخر والتعرف إليه. وكانت صفاتهما متقاربة بما يتميزان به من ذكاء، وقوة عاطفة، وقدرة على قول الشعر مما بعث الحب القوي في قلبيهما.

كما أن المكان الخالي، المتمثل في مرعى الإبل، الذي سمح لجميل وبثينة برؤية بعضهما بعضًا، آثار لديهما الطبيعة الإنسانية في رؤية كل منهما للآخر. فكما يؤكد ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والألاف» أن الأنثى تحب أن تلفت انتباه الرجل إليها، وكذلك الرجل، حتى لو كان باختلاق الخلف والشجار.

ولا ننسى أن عامل القوة، الذي حرص عليه الطرفان ساعد على انجذاب كل منهما للآخر؛ فالمرأة تنجذب إلى الرجل القوي، وكذلك الرجل يحب في المرأة القوة التي تعزز أجمل صفاتها، وهي التمنع، الذي يزيد من تعلقه بها، ومحاولة فرض سيطرته الذكورية عليها. هذا ما نلمحه، على سبيل المثال، قي قول عنترة في معلقته مخاطبًا حبيبته عبلة:

«إِن تُغدِفي دوني القِناعَ فَإِنَّني/ طَبٌّ بِأَخذِ الفارِسِ المُستَلئِم».

وتمثل عامل القوة بين جميل وبثينة في تبادل السب والشتيمة بينهما.

هكذا أحالت العوامل السابقة العداوة بين جميل وبثينة إلى علاقة حب خالدة، صمدت أمام مصاعب الحياة، والعوائق الاجتماعية التي وقفت في طريقهما، في مقدمتها رفض الأهل.

لعل هذا النوع من العداوة محبب في العلاقات بين البشر؛ لأنه يتحول إلى حب يدوم على مر الزمن.