د. محمد عبد الله القواسمة
من المعروف أن مهمة الناقد الأدبي أن ينهض بقراءة النص الأدبي، وفهم معناه، ومعرفة تنظيم أجزائه وعلاقة بعضها ببعض، ثم تحليله وتفكيكه إلى عناصره الأولية، ومن ثم إدراك ما يود المؤلف قوله، وأخيراً إصدار حُكمه النقدي، مع تعليل ذلك وتوضيحه.
هكذا فالناقد الأدبي يعايش النصوص، ويعيدها للقراء في بحث أو دراسة أو مقالة حسب مقتضيات ذوقه وعلمه، دون أن يتدخل بعواطفه وانطباعاته مادحًا أو ذامًا، فهو الوسيط الموضوعي بين النص وقارئه. هذا ما تتوخاه من الناقد التيارات الفكرية والنقدية التاريخية، والكلاسيكية، والرومانسية والبنيوية وغيرها. أي أن يعايش النصوص ويتحدث عنها بنزاهة.
لكن المشكلة بوجود نصوص ليست كالنصوص، التي اعتاد الناقد أن يعيش في كنفها ويتعامل معها، نصوص غريبة لا حياة فيها ولا مشاعر، نصوص آلية اصطنعتها الآلة، التي أوجدها الإنسان؛ كي تساعده في الأساس على إنجاز عمله بسرعة، وبقليل من الجهد، وقليل من المال، لكن لم يتوقف الأمر في المجال الأدبي على الاستعانة بها، أي الآلة في تدقيق اللغة، أو شرح الألفاظ الغامضة، أو الحصول على معلومات بل تخطى ذلك إلى أن سلم لها الأديب روحه، لتبدع شعره، وتروي روايته، وتكتب خواطره. من هنا ماذا على الناقد أن يفعل إزاء هذه النصوص التي تتكاثر بسرعة؟ هل يتعامل معها كما النصوص التي يكتبها البشر؟
لا شك أن الناقد الحقيقي يتجه إلى الكشف عن أمثال تلك النصوص، وبيان زيفها وخبوة حياتها، ثم رفضها. وهي مهمة تتجاوز التحليل والتفسير والتقييم إلى بيان إنسانية النص، وما يتمتع به من صفات الحياة، وكأننا نعود بالنقد إلى معناه اللغوي الذي يعني تبيان النقد الزائف من النقد السليم.
باتت مهمة الناقد الأدبي صعبة في التمييز بين ما تكتبه الآلة وما يبدعه البشر؛ فهو يحتاج فضلًا عن عدة نقدية وجهاز مفاهيم إلى جراءة وشجاعة وذكاء لإعلان رأيه؛ لأن ما تقدمه الآلة يثير الإعجاب في البداية بما فيه من صور باهرة، وعبارات قوية، وتراكيب سليمة، وألفاظ جزلة، ومعلومات وافرة.
لعل ما يصعب المهمة على الناقد، بل ويعقدها كثرة الناس وتنوعهم، ممن يلجؤون إلى الذكاء الاصطناعي في اصطناع الأعمال الإبداعية من شعر ونثر، ومنهم من لا علاقة له بالأدب، ولا بالكتابة، ومنهم معلمون وأساتذة وطلاب جامعات، وحدثني أكثر من صديق أكاديمي عن طلاب ومثقفين عرضوا عليهم أبحاثًا وأعمالًا إبداعية، معظمها في الشعر، على أنها من صناعتهم، وهي في الحقيقة من اصطناع الذكاء الاصطناعي.
ومما يثير العجب أن نجد في أوساط المثقفين والنقاد من يدعو إلى التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية ليتولى الكتابة نيابة عن الأديب. فكتب مولود بن زادي في جريدة «القدس العربي» 16 يوليو – 2025 مقالًا بعنوان» حين يكتب الذكاء الاصطناعي: هل يحقّ للكاتب ما يحقّ للمحرر الآلي؟» يدعو إلى تمكين الذكاء الاصطناعي ليس من أداء كل المهمات التي يؤديها المحرر البشري، فحسب، بل أيضًا «لسماح باستخدام الذكاء الاصطناعي في جميع وظائف عملية الكتابة بكل حرية، بما في ذلك التعبير وإعادة الكتابة، شريطة أن يكون التوجيه الإبداعي نابعًا من المؤلف». فهو يرى الذكاء الاصطناعي أداة فعالة في الكتابة، وذهب على ضوء ذلك إلى إعادة تعريف كل من الأدب والتأليف، فالأدب كما يعرفه «كتابة نثرية أو شعرية تُجسّد أفكار المؤلف ومشاعره وتجاربه ورسائله، مصاغة بأسلوب يختاره». أما المؤلف فهو «العقل المدبّر للعملية الفكرية أو الإبداعية والموجّه لها بغض النظر عن الأسلوب».
فهذا الكاتب يدعو بطريقة جلية إلى أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الأدب. وتقوم الآلة بوظائف الكاتب بحرية، من تعبير وصياغة وتدقيق وتنسيق، وبهذا لا يكون للكاتب أي دور في عملية الكتابة، ولا يكون التوجه لأدائها نابعًا من المؤلف، فلا يوجد إبداع بشري، بل عمل آلي بحت، يستطيع القيام به أي إنسان ملم باستخدام الحاسوب والانترنت. وليس للذكاء الاصطناعي أسلوب فالأسلوب من صفات الإنسان، فيه يجسد الأفكار والعواطف والتجارب. وعلى حد قول الكاتب الفرنسي: «الأسلوب هو الرجل» أو كما عرفه فلوبير رائد الواقعية في الأدب الحديث بأنه» طريقة الكاتب الخاصة في التفكير والشعور». ويعرف الكاتب من أسلوبه من قبل النقاد وغيرهم، ويروى أن الرقيب غوبلز، وزير الدعاية في ألمانيا النازية تعرف رواية إريك ريمارك «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» التي تناولت الحرب العالمية الأولى من أسلوبها، مع أنه كان ينشرها باسم مستعار.
فما نفهمه من مقال الكاتب غير الدعوة إلى الارتهان إلى الآلة الذكية لتغدو مالكة روح الإنسان وقلبه وعقله، مع أنها ليست غير مجرد أداة جامدة لا حياة فيها. وحدت لخدمة المرء لا للتحكم به.
إن ما نخشاه أن تطغى الكتابة الأدبية الاصطناعية على الكتابة الإبداعية البشرية، فتزداد صعوبة تمييز تلك الكتابات التكنولوجية، خاصة مع تقدم تقنية الذكاء الاصطناعي وتطورها، وننتهي إلى جفاف روح الإبداع بشكل عام. وهنا تغدو الحياة في غاية التعقيد والقسوة، حيث ينعدم الجمال، الذي عول عليه الروائي الروسي دستويفسكي وغيره من الفلاسفة بتغيير العالم، وتغيير الإنسان نحو الأفضل، وتقليل الحروب بين الشعوب، وتطهير النفوس من الأحقاد. ما قيمة الحياة، عندما تصبح الآلة هي الشاعر والروائي والمسرحي والقاص، والفنان؟ من يقدر على الحياة بأدب مصطنع وجمال مزيف؟ من يرضى بوجود آلة اخترعها الإنسان بنفسه بأن توجهه، وتتحكم به، وتتبنى التعبير عن آلامه وأحزانه كما شاءت؟
المهمة الجديدة للناقد الأدبي
