فادي السمردلي يكتب: كيف يسرق الإعلام وعينا في حرب بلا رصاص

25 يوليو 2025
فادي السمردلي يكتب: كيف يسرق الإعلام وعينا في حرب بلا رصاص

بقلم فادي زواد السمردلي

في عصرٍ لم تعد فيه المعلومة سلعة نادرة، بل سلعة وفيرة تغمر كل شاشة، بات الإعلام لا يُستخدم فقط لنقل الأحداث، بل لصناعتها أحيانًا، ولرسم صورة عن الواقع قد تكون أبعد ما تكون عن الحقيقة فتزييف الوعي عبر الإعلام لا يعني فقط بث الأكاذيب أو حذف الحقائق، بل الأخطر من ذلك هو إعادة تشكيل إدراك الناس لذاتهم وللعالم من حولهم بطريقة غير مرئية، ناعمة، لكنها فعالة ومدروسة فالإعلام الموجّه يمكن أن يخلق أعداء وهميين، ويبني بطولات كاذبة، ويزرع الخوف أو الأمل في غير محلهما، كل ذلك تحت غطاء الشرعية والمهنية وهنا لا يعود الإعلام مجرد ناقل أو مرآة، بل يتحول إلى أداة سلطة، تمسك بخيوط العقول وتوجّهها كما تشاء.

تتمثل أخطر أدوات التزييف في الإخفاء الانتقائي للمعلومة، وتكرار الرسائل الموجّهة، وتحويل القضايا الجادة إلى ترفيه سخيف يستهلك وقت الناس وطاقاتهم، أو تغليف الدعاية السياسية بأغلفة ثقافية أو دينية أو وطنية وفي خضم كل ذلك، يغيب الصوت الحقيقي، ويُدفن السؤال الجوهري، ويُستبدل التفكير النقدي بردود فعل غريزية فالإعلام الزائف لا يدفعك فقط لتصديق الكذب، بل يعيد تشكيل قيمك، وأولوياتك، وحتى مفهومك للصواب والخطأ.

لكن التحديات تتعدى مضمون الرسالة إلى بنية المنظومة الإعلامية نفسها فاليوم، تسيطر شركات ضخمة ومجموعات مالية على وسائل الإعلام الكبرى، مما يجعل “المعلومة” رهينة مصالح اقتصادية وسياسية فالصحفي قد يُمنع من نشر تقريره، أو يُطلب منه إعادة صياغته بلغة تلمّع جهة معينة أو تُشوّه أخرى وإلى جانب ذلك، يعاني الجمهور من تدني الوعي الإعلامي حيث يُستهلك المحتوى بسرعة ودون تحقق، وتُشارك الأخبار لمجرد أنها “مثيرة” أو “مطابقة لموقف مسبق”، دون أي محاولة للتفكير أو التحليل وهكذا، يصبح الناس وقوداً لمنظومة تزييف واسعة، دون أن يشعروا حتى أنهم جزء منها.

ما يزيد المشهد تعقيداً هو دخول التكنولوجيا كطرف فاعل في صناعة التزييف فأدوات الذكاء الاصطناعي اليوم تتيح صناعة فيديوهات تبدو حقيقية تمامًا لأشخاص يقولون ما لم يقولوه أبدًا، أو صوراً لأحداث لم تقع، أو حتى “أخبارًا” مفبركة يُديرها جيش من الروبوتات والحسابات الوهمية والأدهى من ذلك هو دور خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي التي لا تهدف إلى تنويرك، بل إلى إبقائك داخل دائرة المحتوى الذي يؤكد قناعاتك المسبقة وهكذا، يُحبس كل فرد في فقاعته المعرفية، يرى ما يحب، ويسمع ما يوافقه، ويظن أنه محاط بحقائق لا جدال فيها وهذا أخطر أنواع التزييف حين يظن الإنسان أنه يملك الحقيقة، بينما هو غارق في الوهم.

على الجانب التربوي، تبرز مشكلة أخرى وهي غياب التربية الإعلامية في مؤسسات التعليم فلا يُدرَّس الطالب كيف يقرأ خبراً نقدياً، ولا كيف يُحلل خطاباً إعلامياً، ولا كيف يبحث عن مصادر موثوقة فيُترك الفرد ليواجه هذا العالم الإعلامي المفتوح بوعي هش، وأدوات بدائية، في حين أن قدرات التزييف باتت شديدة التعقيد والدقة فغياب هذا النوع من التعليم يجعل الجمهور عرضة سهلة للتلاعب، ويفتح الباب لتكوين جيل يسير بتوجيهات الإعلام لا بتفكيره الحر.

الفرق بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد يُعمّق المشكلة فبينما كان الإعلام التقليدي، رغم انحيازاته، يعمل في أطر قانونية ومهنية واضحة نسبياً، نجد أن الإعلام الرقمي يسبح في فضاء حر، متاح للجميع، ولكن بدون قواعد فكل شخص يمكنه أن يصبح “صحفياً” في لحظة، وكل شائعة يمكن أن تُصبح “ترندًا” في ساعات، مهما كانت مضحكة أو خطيرة ومع ذلك، الإعلام الرقمي يقدم فرصة ذهبية للمواجهة.فهو يتيح أيضاً مساحة للرد والتفنيد وكشف الزيف، شريطة أن يُستخدم بوعي وفطنة.

التزييف الإعلامي لا يؤثر فقط على السياسة والاقتصاد، بل يترك أثراً نفسياً وثقافياً عميقاً فيخلق الإحساس بالعجز وفقدان الثقة في كل شيء، ويجعل المواطن يشك في كل رواية، أو على العكس تماماً، يقدّس رواية بعينها ويغلق عقله عنها كما أنه يُحدث صدعاً في الهوية الثقافية، حين تُروَّج نماذج سلوكية أو فكرية دخيلة، تُقدَّم على أنها “النجاح” أو “الحياة الحديثة”، بينما تُشيطَن القيم المحلية أو يُسخر منها، مما يؤدي إلى تآكل الهوية الذاتية لدى الشعوب.

ولعل من المفيد هنا استحضار نماذج واقعية كيف استخدم الإعلام لتضليل شعوب بأكملها خلال الحروب، أو لتبرير غزو دول، أو لقلب الحقائق التاريخية فما حدث في العراق الشقيق ، مثلاً، مثال صارخ على كيف يمكن للإعلام أن يُعبّد الطريق أمام الكوارث، حين يُكرّر أكاذيب حتى تُصبح “حقائق” في ذهن الجمهور وفي المقابل، تُظهر لنا تجارب مثل ثورات الربيع العربي كيف أن الإعلام الجديد يمكن أن يُستخدم أيضًا لكسر الحصار المعلوماتي وكشف زيف الرواية الرسمية.

إذن، كيف نواجه هذا الواقع؟ الحل لا يكمن في محاربة الإعلام كأداة، بل في تقويم استخدامه، وبناء حصانة وعي لدى المتلقي فلا بد من إدراج “التربية الإعلامية” في المناهج التعليمية منذ سن مبكرة، وتدريب الأفراد على طرح الأسئلة، والتمييز بين الخبر والرأي، والتحقق من المصادر كما يجب دعم الإعلام المستقل، وتمويل الصحافة المهنية النزيهة، وحماية الصحفيين من الضغوط السياسية والاقتصادية وعلى الجمهور أيضًا أن يتحمل مسؤولية الوعي فليس كل ما يُقال يُصدّق، وليس كل ما يُعرض يُمثل الواقع.

في النهاية، الإعلام كالسلاح، يمكن أن يُستخدم في الخير أو الشر وما لم يكن لدى الناس وعي حقيقي بطريقة عمل هذا السلاح، وبمن يُمسكه، ولماذا يُصوّبه بهذا الاتجاه أو ذاك، فسيظلون أهدافًا سهلة في حرب لا تُطلق فيها الرصاصات، بل تُزرع فيها الأفكار فالتزييف لا يُقابل بالصمت، بل بالفهم، بالتساؤل، وبالإصرار على رؤية ما وراء الصورة، لا الاكتفاء بما يُعرض منها.