أوروبا تواجه أزمة نقص السكان والمهاجرون هم الحل

3 دقائق ago
أوروبا تواجه أزمة نقص السكان والمهاجرون هم الحل

وطنا اليوم:في وقت تتنافس فيه دول الاتحاد الأوروبي في سياسات التضييق على المهاجرين، أظهرت بيانات لمعهد الإحصاء التابع للاتحاد الأوروبي (يوروستات)، صادرة الجمعة 11 يوليو/تموز 2025، أن الهجرة هي المحرك الوحيد للنمو السكاني في القارة العجوز التي باتت وفياتها تفوق مواليدها بحوالي 1.3 مليون نسمة سنويا.
وكشفت البيانات أن صافي الهجرة الإيجابي إلى أوروبا بلغ العام الماضي 2.3 مليون شخص وهو ما مكن من تعويض الانخفاض الطبيعي في سكان الاتحاد ليبلغوا 450.4 مليون نسمة.
في هذا التقرير سنقرأ هذه المعطيات وما تعكسه من أزمة ديمغرافية تعانيها أوروبا والسيناريوهات المستقبلية لهذه الأزمة، سواء في حال استمرار تدفقات المهاجرين، أو في حال ما إذا اعتمدت الحكومات الأوروبية سياسات صارمة لوقف الهجرة كما يهدد اليمين المتطرف المتنامي نفوذه في أوروبا.

معطيات كاشفة.. الهجرة تُنقذ ديمغرافية أوروبا
وفقا لبيانات معهد يوروستات التي نشرتها صحيفة تلغراف البريطانية، فإن عدد سكان الاتحاد بلغ 450.4 مليون نسمة مطلع يناير/كانون الثاني 2025، وهو رقم قياسي إذ يمثل زيادة قدرها مليون نسمة تقريبا عن العام الماضي.
لكن الأرقام نفسها تكشف أن هذه الزيادة لا تعود إلى النمو الطبيعي للسكان، بل إلى صافي الهجرة الإيجابي الذي بلغ 2.3 مليون شخص عام 2024، مقابل 1.3 مليون في العام السابق، وهو ما أسفر عن ارتفاع عدد السكان بمقدار 1.07 مليون مقيم جديد.
وفي الوقت نفسه، شهد الاتحاد الأوروبي 4.82 ملايين حالة وفاة خلال العام الماضي، وهو رقم يفوق عدد المواليد البالغ 3.56 ملايين نسمة مما يعني -حسب المعهدـ أن النمو أو الانخفاض السكاني الإجمالي للاتحاد الأوروبي في المستقبل سيعتمد على معدلات الهجرة الصافية.
وتعتبر صحيفة تلغراف أن هذه البيانات تُسلط الضوء على الأزمة الديمغرافية الوشيكة في أوروبا، إذ ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الهجرة لتعويض انخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان التي ستشكل ضغطا على الرعاية الاجتماعية وتؤدي إلى نقص العمالة.
والمفارقة أنه رغم هذه المعطيات، وفق تلغراف، تواصل عدة حكومات في الاتحاد الأوروبي تشديد الخناق على الهجرة، وسط ازدياد مخاوف الأوروبيين من المهاجرين مما دفعهم نحو اليمين.
ويعرف تقرير لموقع “آر اف برلين” الألماني بعنوان “السكان المهاجرون في الاتحاد الأوروبي” المهاجرين بأنهم الأفراد المولودون في بلد غير البلد الذي يقيمون فيه، مضيفا أن نسبة الأفراد المولودين في الخارج في دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت من 13.6% عام 2023 إلى 14.1% عام 2024.
ويؤكد التقرير أن عدد السكان المولودين في الخارج في الاتحاد الأوروبي شهد نموا مطردا من حوالي 41 مليونا عام 2010 إلى أكثر من 63 مليونا عام 2024، وهو ما يمثل زيادة من 10% إلى 14.1% من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي.
ومنذ 2010 إلى 2024 شهدت كل من ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا زيادات مطردة في أعداد المهاجرين، مع تزايد ملحوظ مؤخرا في ألمانيا حيث ارتفع عدد المهاجرين فيها من حوالي 11 مليونا عام 2015 إلى 17.4 مليونا عام 2024 (أي من 13.4% إلى 20.9% من إجمالي السكان)، وهذا يؤكد وضعها كوجهة رئيسية للمهاجرين في الاتحاد الأوروبي.
وسجلت إسبانيا زيادة بنحو 3 ملايين مهاجر، من 5.9 ملايين إلى 8.8 ملايين خلال الفترة نفسها (من 12.7% إلى 18.2% من إجمالي السكان المقيمين).
وحسب معطيات يوروستات فقد ساهمت الهجرة في نمو سكان الاتحاد الأوروبي منذ العام 2011 عندما انخفضت معدلات المواليد لأول مرة عن معدلات الوفيات.
وبسبب تأثر الهجرة بإغلاق الحدود وقيود السفر خلال جائحة كوفيد-19 انخفض عدد سكان الاتحاد عام 2021، ثم بدأ في الارتفاع مرة أخرى في 2022 بعد إنهاء إجراءات كوفيد-19 وارتفاع صافي الهجرة من جديد، وهو اتجاه مستمر لحد الآن.
ومما يؤكد أن الهجرة هي المحرك الوحيد للنمو السكاني في أوروبا أن أعلى معدل نمو سكاني عام 2024 سجل في مالطا بزيادة قدرها 19.0 لكل ألف نسمة، وأن مالطا نفسها سجّلت أعلى معدل إيجابي لصافي الهجرة من بين جميع دول الاتحاد الأوروبي وصل (18.7 لكل ألف شخص).
بينما سجلت لاتفيا أكبر انخفاض في عدد السكان وهي أقل الدول الأوروبية استقبالا للمهاجرين، وسجلت المجر التي تُعَدُّ قوانين الهجرة فيها من بين الأكثر تقييدا في الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر انخفاض في عدد السكان داخل الاتحاد.

فرنسا تبدأ التباطؤ
قد يكون من المفيد هنا أن ندرس حالة إحدى الدول الأوروبية على حدة وكيف تؤثر الهجرة في نموها الديمغرافي، وهنا نأخذ فرنسا على سبيل المثال.
فحسب تقرير لصحيفة لاكروا الفرنسية بعنوان “الهجرة عامل رئيسي في مستقبل فرنسا الديمغرافي” يعتبر الكاتب ناتالي بيرشيم أنه في عام 2022 بلغ عدد المهاجرين (أشخاص ولدوا في الخارج) في فرنسا 7 ملايين شخص وهو ما يمثل 10.3% من سكانها.
ويؤكد التقرير استنادا إلى معطيات نشرها معهد مونتين الفرنسي للبحوث الإستراتيجية أن الهجرة باتت تمثل عنصرا متزايد الأهمية في نمو السكان الفرنسيين في ظل تباطؤ معدل المواليد وارتفاع معدلات الوفيات.
وتنقل لاكروا عن نائب مدير المعهد برونو تيرتري قوله: “إن فرنسا، بعد جيل طفرة المواليد، تستعد لتجربة انخفاض في عدد سكانها، وهو ما لا يمكن تعويضه إلا من خلال الهجرة في الأمدين القريب والمتوسط”.
لكن الباحث يرى أن هذه الحقيقة التي تتطلب السماح بتدفقات هجرة أكبر تصطدم بنظرية “الاستبدال العظيم” التي يروج لها اليمين المتطرف تخويفا من المهاجرين.
ويعتبر تيرتري أنه إذا كانت فرنسا مقارنةً بجيرانها الأوروبيين لا تمر بوضع ديمغرافي مقلق، فإنه يبدو أنها دخلت مرحلة تباطؤ ديمغرافي دائمة (+ 0.5% عام 2018، + 0.3% عام 2020)، إلى جانب شيخوخة سكانها بسبب ارتفاع السن عند الولادة الأولى وانخفاض معدل الخصوبة الإجمالي إلى 1.8 فقط عام 2022، في حين كان يبلغ 2 قبل عقد من الزمان.
وأضاف تقرير لاكروا أنه في عام 2022 شكلت الهجرة للمرة الأولى ما يقرب من 3 أرباع النمو السكاني في فرنسا بسبب زيادة تدفقات المهاجرين.
ويخلص التقرير أنه إذا استمرت الهجرة الصافية في معدلاتها الحالية ستحافظ فرنسا على مستوى من النمو الديمغرافي، أما إذا زادت إجراءات التضييق على المهاجرين فلن تتمكن فرنسا من تجنب الوقوع في أزمة ديمغرافية.

سيناريوهات مستقبلية
في تقرير لصحيفة الغارديان بعنوان “التغير المتوقع في عدد سكان أوروبا بحلول عام 2100” اعتبر الكاتب أليكس كلارك أن التوقعات تُشير إلى أن صعود اليمين المتطرف قد يُسرّع من وتيرة التراجع السكاني في أوروبا، مما سيُسبب صدمات اقتصادية تشمل تباطؤ النمو وارتفاعا حادا في تكاليف المعاشات التقاعدية ورعاية المسنين.
واعتبر تقرير الغارديان أن السياسات المناهضة للهجرة تشهد تصاعدا في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، كما يتضح من المكاسب التي حققتها الأحزاب اليمينية المتطرفة في انتخابات 2024.
لكن أليكس كلارك يؤكد أنه على الراغبين في إغلاق حدود أوروبا مواجهة واقع ديمغرافي صارخ، فمن المتوقع أن ينخفض عدد السكان الأصليين للقارة بشكل حاد خلال القرن المقبل.
وقد وضعت الغارديان سيناريوهين لمستقبل النمو السكاني في الاتحاد الأوروبي للاتحاد الأوروبي، أحدهما يستند إلى الهجرة انطلاقا من متوسط مستويات الهجرة الصافية خلال الـ20 سنة الماضية، والثاني يستبعد الهجرة، ويستند إلى ديناميكيات السكان الطبيعية.
وضربت الصحيفة أمثلة على هذين السيناريوهين، فأوضحت أن إيطاليا التي جعلت رئيسة وزرائها جورجيا ميلوني، من مكافحة الهجرة أولوية في ولايتها الأولى، تُعاني من أحد أدنى معدلات الخصوبة في أوروبا، وسيتراجع عدد سكانها بأكثر من النصف بحلول نهاية القرن في ظل انعدام الهجرة.
وفي ألمانيا، التي احتل حزب “البديل من أجل ألمانيا” المناهض للهجرة المركز الثاني في انتخاباتها الأخيرة، قد يتقلص عدد السكان من 83 مليونا إلى 53 مليونا خلال الـ80 عاما القادمة إذا أُغلقت حدودها تماما، بحسب الغارديان.
وفي فرنسا، حيث فاز حزب “التجمع الوطني” بالجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الصيف الماضي بعد حملة دعائية ركزت على الدعوة لفرض قيود على الوافدين، فإن سيناريو انعدام الهجرة يعني انخفاض عدد السكان من 68 مليونا إلى 59 مليونا.
وتعتبر الغارديان أنه في معظم دول أوروبا، لن يتسبب الحد من الهجرة في تقلص عدد السكان فحسب، بل ستزداد القارة شيخوخة، ففي حين تصل حاليا نسبة سكان الاتحاد الأوروبي الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر 21%، فإن هذه النسبة سترتفع إلى 36% بحلول عام 2100 في حال تطبيق سيناريو الحد من الهجرة.

ضغوطات محتملة
وتؤكد التقارير السابقة استنادا إلى باحثين أن التباطؤ الديمغرافي سيضع دول الاتحاد الأوروبي تحت ضغط اقتصادي متزايد، وسيؤدي إلى تباطؤ النمو نتيجةً لتقلص القوى العاملة وارتفاع الأعباء الضريبية نتيجة لارتفاع الإنفاق على المعاشات التقاعدية وارتفاع الطلب على الرعاية الصحية وخصوصا رعاية المسنين.
ويؤكد الباحثون أن بعض الدول الأوروبية بدأت تعيش هذه التداعيات السلبية للأزمة الديمغرافية كما هو الحال في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا.
ويوضح أستاذ الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد آلان مانينغ أن نسبة الذين يحتاجون إلى الرعاية في أوروبا في ازدياد بفعل تزايد نسبة كبار السن في المجتمع.
كما أن انخفاض عدد الأطفال وانخفاض معدلات الخصوبة سيقلص أيضا عدد الأشخاص المحتاج لهم في التعليم وفي رعاية الأطفال، مما سيفرض نقل الأشخاص الذين كانوا يرعون الأطفال إلى رعاية المسنين.
وتعتمد حاليا العديد من أنظمة الرعاية الصحية في الاتحاد الأوروبي على الأطباء أو الممرضات المهاجرين.
وحسب صحيفة الغارديان فإن المناطق الريفية في الاتحاد الأوروبي تتحمل وطأة الانخفاض السكاني أكثر من المدن، فالعديد من القرى الأوروبية مهددة بمصير قرية كاميني في جنوب إيطاليا.
وتُعد هذه القرية واحدة من قرى إيطالية عديدة انخفض فيها عدد السكان بشكل حاد منذ أواخر القرن الـ20، لتصبح كاميني مؤخرا موقعا لمشروع لإعادة توطين اللاجئين في محاولة لإنقاذ المجتمع من الانقراض.
وحسب الغارديان فقد ورد ذكر القرية في تقرير حديث لمجلس أوروبا كتبته النائبة العمالية كيت أوسامور، والذي بحث في إمكانية الهجرة للتخفيف من تحديات شيخوخة السكان.
ونقلت الصحيفة عن روزاريو المولودة في كاميني والتي ترأس الآن تعاونية تدير مشروع إعادة التوطين في القرية قولها: “كنت أشاهد المكان يموت ببطء.. كانت المنازل تنهار ببساطة لعدم وجود أحد فيها”.
وقد نجح برنامج إعادة التوطين هذا في استقدام 50 مهاجرا للبقاء بشكل دائم في كاميني ليصل عدد سكان القرية إلى 350 نسمة، بينما يتم استضافة 118 مهاجرا آخرين مؤقتا، وكان من الإنجازات الرمزية للبرنامج إعادة افتتاح المدرسة المحلية مؤخرا.
ووصفت سيرينا فرانكو، التي تشارك أيضا في مشروع كاميني وقدمت تقريرا عنه إلى مجلس أوروبا المهاجرين بقولها: “إنهم يجلبون المهارات.. والآن بدأنا معهم في تطوير القرية وابتكار أشياء جديدة، ووظائف جديدة أيضا، وهو ما كان مستحيلا بدونهم”.

الهجرة ليست الحل السحري
لكن صحيفة الغارديان تنقل في الوقت نفسه عن خبراء آخرين أن الهجرة ليست حلا سحريا للتحديات الديمغرافية التي تواجه أوروبا، بل هي عامل ضمن عوامل عديدة لحل الأزمة.
ويوضح هؤلاء الخبراء أن زيادة مستويات الهجرة لن تحل بمفردها الأزمة الديمغرافية، ليس فقط لأن المستويات المطلوبة ستكون كبيرة جدا، لكن لأنه من الضروري أيضا اتخاذ تدابير أخرى، مثل رفع معدلات توظيف الأشخاص في سن العمل، وتأجيل سن التقاعد، وإصلاح المعاشات التقاعدية، وإصلاح العبء الضريبي.
كما أنه لكي تُسهم الهجرة في تحسين الوضع يجب أن يكون المهاجرون عاملين بالفعل، والعديد من الدول الأوروبية لديها معدلات توظيف منخفضة جدا بين الكثير من المهاجرين.
وزيادة على ذلك، يقول تقرير الغارديان إن المهاجرين الذي لا يعملون سيحتاجون إلى دعم من أجل الرعاية الاجتماعية، وبالتالي فلن يُحسّن ذلك الأمور، بل سيُفاقمها.