بقلم: إبراهيم السيوف
في لحظة رمزية تُمثّل أخطر ما يمكن أن يولد من رحم الاحتجاج، ارتفع علم الكيان الصهيوني في محافظة السويداء، ليس كخطأ فردي، بل كفعلٍ سياسي يُراد له أن يهزّ يقين الهوية، ويشكك في بديهيات الانتماء. إننا لا نتحدث هنا عن غضب شعبي مشروع ولا عن حراك مجتمعي يطالب بحقوقه؛ بل نحن أمام استدعاء ممنهج لرمز نقيض لكل ما تمثله سوريا العروبة والمقاومة.
هذا الفعل، في جوهره، ليس تمردًا على السلطة، بل طعنة في صدر الأمة، وخيانة رمزية للدماء التي سالت منذ عام 1948 دفاعًا عن كرامة الأرض. فالسويداء، وهي التي حملت في ذاكرتها قامة سلطان باشا الأطرش وراية الثورة السورية الكبرى، لا تستحق أن تُختزل اليوم في مشهد علم دخيل، دخوله لا يُفسَّر إلا بأنه محاولة لتمزيق ما تبقى من خريطة الانتماء في سوريا.
ورغم ما يعانيه أهل السويداء من تهميش مزمن، إلا أن رفع علم كيان مغتصِب لا يمكن أن يُعتبر تعبيرًا عن المظلومية، بل هو انقلاب على جوهر القضية، وتبرير مجاني لكل مشاريع الاختراق والتطبيع التي تُدار في الظل.
وفي خضم هذا المشهد الرمادي، لا بد من تسليط الضوء على القوة الصامتة التي ما زالت تشكّل العصب الحقيقي للدولة السورية الجديدة: القبائل العربية السورية، تلك التي – رغم كل ما تعرّضت له من حملات تشويه ممنهجة من بعض الأصوات الإعلامية التي لا ترى في القبيلة سوى صورة نمطية من “البدائية” – ما تزال تثبت في كل مفصل من مفاصل الصراع أنها الدرع الأول للنظام، وسياج الدولة، وامتداد الروح العربية الأصيلة.
إن اختزال القبائل السورية في مشاهد الهمجية التي يروّج لها بعض المأجورين، هو جريمة فكرية قبل أن تكون سياسية. فهذه القبائل، التي امتزجت دماؤها مع تراب الأرض السورية في كل معركة وموقف، لم تكن في يوم من الأيام عالة على الوطن، بل كانت ولا تزال عامود الدولة وأحد أسباب تماسكها في وجه الانهيار.
وهنا تظهر المفارقة: في الوقت الذي يُرفَع فيه علم العدو في بعض مناطق الجنوب بدعوى المطالبة بحقوق، يُراد للقبائل السورية التي لم تغادر ميدان الولاء والانضباط أن تُهان وتُتهم بالجهل والتخلف! أيُّ منطق هذا؟ وأيُّ عُهر فكري يُراد لنا أن نبتلعه؟
ما يحدث في السويداء ليس حالة منعزلة، بل هو جزء من مشهد واسع تُرسم ملامحه بحبر خارجي. مشهد يسعى لإعادة إنتاج سوريا على أسس طائفية ومناطقية، وفصلها عن بعدها العربي، وتقديمها كدولة بلا روح، ولا هوية، ولا عمق.
ولكن هذا المشروع لن يمرّ، طالما بقي في الشمال والشرق والجنوب من ينتمي للأرض لا للرمز المستورد، ويصون التاريخ لا يُقايضه بالشعارات، ويُؤمن أن سوريا لا تبنى بشعارات “إسرائيل صديق محتمل”، بل ببندقية الدفاع عن العروبة، وبعقلٍ سياسي لا ينسى من هو العدو، مهما كانت الخلافات مع الحاكم أو الدولة.
ولأنني أردني، وعربي حتى النخاع، لا أكتب لأصادر رأيًا، ولا لأتدخل في شأنٍ داخلي، ولكنني أكتب لأن ما يحدث في السويداء يمسّني كما يمسّ كل حرّ في هذه الأمة. فلستُ محايدًا أمام علمٍ صهيوني يُرفرف في أرض العروبة، ولستُ صامتًا حين تُهان قبائل عربية لا تملك إلا شرف الانتماء والعطاء.
سوريا لا تحتاج إلى علم جديد، بل إلى عقل جديد. عقل يُعيد ترتيب العلاقة بين الشعب والدولة على قاعدة الحقوق والكرامة، دون أن يبيع الثوابت في بازار الأزمات.
وسوريا لا تحتاج إلى أصوات تشوّه قبائلها، بل إلى من يُنصت لصوت الصحراء والريف والبادية، حيث لا تُكتب الولاءات في البيانات، بل تُنقش في صدور الرجال.
وما بين من رفعوا علمًا دخيلاً، ومن بقوا حُراسًا للهوية في صمتٍ مهيب… تُكتب ملامح سوريا القادمة، فإما أن تُبعث من رمادها كدولة عربية ذات سيادة، أو تُترك لمن يحولونها إلى خرائط بلا قلب.