بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في خطاب مهيب، ألقاه جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين أمام البرلمان الأوروبي، تَجلى مرة أخرى الدور التاريخي والدولي الذي يمارسه هذا القائد العربي الفذ، بصفته صوتًا إنسانيًّا وعقلاً استراتيجياً في زمنٍ تكاد فيه القيم تنهار تحت وطأة النزاعات والأزمات المتلاحقة.
جاء خطاب جلالته كصرخة ضمير في وجه الصمت الدولي، وخارطة طريق أخلاقية أمام عالم ضلّ بوصلته. خطابه لم يكن مجرد إحاطة سياسية ولا عرضًا دبلوماسيًا عابرًا، بل وثيقة أخلاقية وإنسانية تنطق بالحكمة الهاشمية المتجذرة في التاريخ العربي الإسلامي، والمتكئة على رؤية سياسية عميقة تستشرف المستقبل وتُحذر من تداعيات الحاضر.
الملك صانع التوازن الدولي
منذ بداية الخطاب، بدا الملك كمن يقرأ ضمير البشرية، إذ تحدث عن اضطرابات العالم منذ خمس سنوات إلى اليوم: من الجائحة العالمية إلى الحرب في أوكرانيا، ومن تسارع التكنولوجيا إلى تفشي المعلومات المضللة، وصولًا إلى المذبحة الجارية في غزة والهجمات الإسرائيلية على إيران. هذا العرض لا يُقصد به السرد، بل يحمل دلالة عميقة: العالم يفقد بوصلته الأخلاقية، ولا بد من مرجعية تعيده إلى جادة القيم، وهنا يتقدم الملك الأردني بدوره التاريخي.
إنه لا يعرض المشاكل فحسب، بل يشير بإصبع الوعي إلى الجذر الحقيقي لها: انحدار المعايير الأخلاقية، وتآكل الثقة بالعدالة، والخلل المتزايد بين القول والفعل في النظام العالمي.
حكمة ملك… وميراث أنبياء
جلالة الملك لا يتحدث كسياسي فحسب، بل كزعيم يحمل إرثًا دينيًّا وأخلاقيًّا نابعًا من وصاية تاريخية على مقدسات القدس، ومن عهد عمر بن الخطاب إلى أهل المدينة المقدسة، والذي جسد معاني العدالة والتسامح والكرامة. تلك العهدة العمرية التي ألهمت لاحقًا اتفاقيات جنيف، أصبحت اليوم مهددة، وفق تحذير الملك، في ظل جرائم ترتكب جهارًا في غزة والضفة الغربية.
لقد أعاد جلالته ربط السياسة بالأخلاق، والموقف بالمبدأ، حين بيّن أن الحروب لم تكن في يوم من الأيام صراعًا على الأرض فقط، بل على القيم التي تشكل المستقبل. وعندما تسقط هذه القيم، تتحول السياسة إلى وحش لا أخلاقي لا يعترف بإنسان ولا بحضارة.
غزة… جرح الإنسان ومحرقة القيم
وقف الملك عبد الله أمام صمت العالم ليرفع الصوت باسم المظلومين، مؤكداً أن ما يحدث في غزة ليس مأساة فلسطينية فقط، بل فضيحة أخلاقية للعالم بأسره. كيف يمكن للعالم أن يسمح باستخدام المجاعة كسلاح؟ كيف يصبح استهداف المستشفيات والأطفال والنساء واللاجئين أمرًا مألوفًا لا يثير حتى الذكر؟ كيف تُنتزع الإنسانية من قلب الإنسان دون ردة فعل؟
الملك هنا لا يُخاطب الجغرافيا، بل يُخاطب الضمير العالمي، ويعلن أننا أمام مفترق طرق مصيري: إما أن نختار السلطة والقوة، أو نختار القانون والمبدأ. هذا هو جوهر المعركة: ليست بين العرب والإسرائيليين فحسب، بل بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، بين ضمير الإنسان وغرائز الوحش.
شراكة الأردن مع أوروبا… نحو مستقبل أخلاقي مشترك
بخطابه، يؤكد الملك أن الأردن لا يقف في موقع المتفرج، بل هو شريك فاعل في صياغة الاستقرار العالمي. يمد يده لأوروبا من موقع القوة الأخلاقية لا من موقع الاستجداء. ويعرض طريقين للعمل: التنمية، والأمن العالمي المشترك، مشددًا على أن العالم لا يمكن أن ينعم بالأمن إذا بقي الصراع الفلسطيني دون حل، وإذا استمرت إسرائيل في سياسة الهدم والعدوان وتوسيع نيران الحرب حتى إيران.
وبوضوح نادر، قالها الملك: إذا لم يتحقق السلام العادل القائم على القانون الدولي، فسنكون جميعًا شهودًا على إعادة تعريف معنى أن نكون بشرًا — لكن في أكثر الصور تشويهًا وقسوة.
صوت الأردن… ضمير الأمة
في زمن الصخب والضجيج، يأتي صوت الملك عبد الله الثاني هادئًا لكنه مزلزل في معناه. يقف ثابتًا في وجه الزيف، يذكّر العالم بقيمه الأصلية، ويعلن أن التقدم لا يُقاس بالتكنولوجيا بل بالإنسان، وأن القائد الحق هو من يقود بالشرف لا بالمصلحة.
هذا الخطاب ليس مناسبة رسمية، بل لحظة تاريخية تقف شاهدة على قائد عربي يحمل لواء الحق، ويمتلك من الرؤية والحكمة والإنسانية ما يجعله حجر الزاوية في توازن إقليمي وعالمي مأزوم.
لقد نطق الملك بلسان القدس، ودمعة غزة، وضمير الإنسان. فهل يسمع العالم؟ وهل يستجيب قبل أن يُهدم كل ما تبقى من معنى؟
إنه صوت العدل وسط عالم يختنق بالصمت.