في الأردن الدولة…لم يعد السكوت عن البعض مقبولًا

14 أبريل 2025
في الأردن الدولة…لم يعد السكوت عن البعض مقبولًا

بقلم: نضال البطاينة

نحن في زمن يجد به كل صاحب رأي نفسه مضطرًا لأن يغلف كلامه بمجموعة من المقدمات والمجاملات حتى لا يثير حفيظة البعض، أو شهية البعض أحيانًا، فجميعنا نلاحظ ونشهد مؤخرًا أنّ هناك من يقتاتون على قريحة الجرح الغائر؛ الذي سأتحدث عنه دون مواربة أو مجاملة في هذه السطور، فلم يعد من الممكن أو المقبول الاكتفاء بإغماض أعيننا ووضع رؤوسنا في الرّمال .

أتحدّث هنا عن فئة “أنتم ونحن” ولا يعلمون ـ أو يعلمون ويحرفون- بأنّنا في مركب واحد؛ هو مركب الوطن.

كم هو مؤسف ومقلق ما نشهده اليوم من تصاعد لخطابٍ وتواصل اجتماعي حاد، تغذّيه الفتنة، وتُحرّكه الأوهام الموروثة، وما يدار من خلف الشاشات بمنطق الإقصاء والتفوق الزائف. وكأنّ أحدًا يملك “قوشان” هذا البلد، وكأنّ الآخر ضيفٌ عابر وكل شأن لديه أهم من الشأن الأردني؛ فالأردن ليس حكرًا على أحد، ولا يحتمل تصنيف المواطنين من قبل البعض، فهذا البلد بُني بالعرق المشترك، والدم المشترك، والتاريخ المشترك؛ وهويتنا الوطنية لا تعني احتكارًا من طرف، ولا إقصاءً لطرف آخر؛ وبالتالي من الخطأ أن يفهمها البعض كأداة للتفوق، أو يراها الآخر كدليل على الإقصاء أو إسقاطه لواجباته، فهي لكل أردني ينطوي تحت ظلها وهذا الانطواء تحتها هو فرض عين على كل أردني تحقيقا للمواطنة، كما أنه من المعيب أن يحمل البعض جنسية هذا البلد ويتمتع بكامل حقوقه، ثم تكون له أولويات فوق مصلحة الدولة، ويتعامل مع القضايا الوطنية ببرود أو شعبويات أو مظلوميات زائفة، ومن المعيب أيضًا أن يخاطبنا البعض وكأنه صاحب الدار والمعزب بالأقدمية والآخر ضيف عنده، فهذه سلوكيات لا تعكس الانتماء، بل هي قصور في الفهم وخذلان للمسؤولية. فإضعاف الأردن – لا سمح الله – لا يحقق مكسبًا لأي طرف، بل هو خسارة جماعية يتحملها الجميع.

الشعب الأردني نسيج واحد، يضم كل من يحمل رقم وطني ويعتز بحمله له من كل الأطياف والمكونات. هذا التنوّع لم يكن يومًا مصدر تهديد، بل هو مصدر قوة وتميّز. فليس عيب أن تفتخر بأصلك ولكن العيب الحقيقي أن لا يكون الأردن أولويتك القصوى، وأن تضع مصالحك الفئوية أو الشخصية فوق مصلحة البلد، كما علينا أن نوضح ونشرح للأجيال أنه لا يحق لأردني أن يزاود على أردني آخر بالنسبة لفلسطين، فمنا من فلسطين تعني له جذوره، ومنا من تعني له العروبة والمقدسات، ومنا من تعني له الثرى الذي استشهد والده أو جدّه من أجله بطلا من أبطال الجيش العربي.

وهنا، لا بد أن أستذكر موقفًا بسيطًا لكنه عميق: عندما كنت في زيارة رسمية لسنغافورة -إبان عملي في إحدى الدول الشقيقة-، وأثناء حديثي مع السائق ذي البشرة الصفراء والعينين الصينيتين أصر أنه من سنغافورة، رغم أن ملامحه توحي بالصين، سألته عن أصله، فأصر بإيمان: “أنا ابن سنغافورة”، حينها أدركت ما معنى الانتماء الحقيقي، لا المرتبط بالشكل أو الأصل، بل بالفعل والموقف حين الكل يضع مصلحة بلده فوق كل اعتبار، لا أحد يسأل عن الجذور، ولا أحد يُفرّق بين ملامح وأسماء. أما نحن، فما زلنا نبحث عن اختلافات وهمية بالرغم من أننا نواجه نفس التهديدات ولنا نفس التاريخ ونتبع ذات العادات عدا أننا من ذات العرق والبشرة والعيون والملامح وحتى “الكشرة”، وكأننا أشقاء من ذات الأم والأب، نعم ننسى أن الأردنية ليست بطاقة ورقم وطني ولا وراثة، بل التزام وانتماء وعمل، ولا يوجد بلد كما لا يمكن لبلد أن يحمل مواطنوه جميعا أكثر من هوية وطنية واحدة يتمترس الجميع خلفها.

نحن اليوم أحوج إلى خطاب وطني ناضج، يترفّع عن الانفعال، ويتّسم بالوعي، ولا يسمح للخطاب العشوائي أن يقود المزاج العام. فلا يليق بمنصات التواصل أن تصبح مسارح للكراهية والاستفزاز. فالأردن ليس هشًّا ليهتز عند أول تصريح فارغ أو ممارسة فردية لا تمثلنا. الأردن العظيم لا تليق به التفاهات لتصبح عناوين نقاش و ” ترندات” و محاور انقسام.

لقد حان الوقت للعودة إلى سيادة القانون، لا بالشعارات، بل بالفعل، فخطاب الكراهية ليس حرية تعبير، بل خرق للسلم المجتمعي واعتداء على وحدة البلد، وهناك قوانين واضحة تُجرّم التحريض على الفتنة، وعلى الدولة أن تطبّقها بحزم، وعلى الجميع، دون محاباة أو حسابات ضيقة؛ لأن من يُشعل الفتنة ـ حتى لو كان أخاك ـ لا يستحق الصمت عنده لأنه سيدمر العائلة ، ومن يُقصي غيره أو يُحقّر بلده، يجب أن يُحاسب؛ فالمعيار الوحيد للانتماء قوامه : ماذا قدّمت لهذا البلد؟ كيف دافعت عنه؟ وهل ساهمت في وحدته أم كنت سببًا في تمزيقه؟ التقديم للبلد كل في مجاله مزارع، وتاجر، ومعلم، وممرض، وطالب.. الخ.

الأردنيون جميعهم يجب أن يعملوا من أجل أردن قوي وبيئة سياسية وأمنية مستقرة تتسع للجميع، ولا إقصاء فيها أو انتقام من أحد. ففيما مؤسساتنا تعمل على تهدئة وتمتين الجبهة الداخلية، فإنه لا يجوز لأحد كائنًا مَن كان أن يحاول هز هذه الجبهة أو يؤثر على هذه الجهود، فلا أحد ينكر أن للأردنيين “قسطهم الوطني” الذي يجب عليهم أداؤه، خاصة في هذه المفاصل العصيبة، لكن هذا القسط، رغم حجمه ونُبله، لا ينبغي أن يتحول إلى “تفويض سياسي” يُستغل لتصفية خصومات لا تليق بحجم الأردن الدولة.

كان يمكن للأمور أن تتعقد أكثر لو لم يُلقِ الأمن القبض على المتهمين بالإساءة لقواتنا المُسلّحة وأجهزتنا الأمنية، لكنه وقد فعل، فالبعض مطالب بالكف عن المراهقات السياسية والمزايدات وعدم الخوض أكثر في ذلك ووقف الإساءات وتعليق المشانق الشعبية، والعمل على إنتاج خطاب أخلاقي ومهني يُجنّبنا فوضى الانفعالات. لا نحتاج اليوم لمن يلتقط صورة أو ينشر مقطعًا، بل نحتاج إلى وعي يحمي هيبة الدولة ويصون الثقة بمؤسساتها. فقد أصبح من الضروري أن تُفعَّل القوانين الرّادعة، ففي أحيان كثيرة، لا يكون احترام القانون عبر النصح والإرشاد، بل بتطبيق القانون بصرامة، وحملة “الصُلح خير” لا تجدي نفعاً حين يتجرأ البعض على النظام العام، ويستغلون رحمة الدولة ومؤسساتها. وبالتالي نحن نحتاج لتلك العصا التي وُضعت على الرف منذ أعوام، لتكون رسالة رادعة لكل من تسوّل له نفسه التجاوز على القانون.

الأردن سيبقى أقوى من كل الطارئين على المشهد، وأعمق من كل خطابات الفُرقة، ولن يُختصر البلد بمنشور، ولا يُقاس الولاء بالشعارات. فليعلُ صوت القانون، ولتنكسر على عتبته كل المحاولات التي تسعى إلى تمزيقنا من الداخل.
نحتاج أن نعيد تعريف الوطنية والمواطنة، لا كحق مكتسب يُتوارث، بل كواجب يومي يُمارس. فالبلد لا يُبنى بالشعارات، بل بالفعل، ولا يُحمى بالصراخ، بل بالعقل، ولا يصمد إلا حين يكون أولويته فوق الجميع،

حمى الله البلد أرضًا وشعبا وقيادة وقوات مسلحة .