كتب د. رامي شاهين
في زحمة التحديات التي تواجهها الدول اليوم، هناك أزمة لم نلقِ لها بالًا إلا بعد أن تحولت إلى معضلة وطنية تُكبل الابتكار وتؤخر عجلة التنمية. أزمة لم تأتِ فجأة، بل كانت تتراكم بهدوء، تتشكل كطبقات فوق بعضها البعض حتى وصلنا إلى اللحظة التي لا يمكننا فيها التقدّم دون تفكيكها.
البيانات… نعم، البيانات ليست مجرد أرقام ومؤشرات، بل هي روح العصر، وعندما تُدار بشكل فوضوي أو تُترك متناثرة بين الوزارات والمؤسسات، فإنها تصبح عبئًا بدلًا من أن تكون قوة دافعة. منذ سنوات، طُرحت رؤية ثورية لإعادة تشكيل إدارة البيانات على مستوى الدولة، لكن لا أحد استمع حينها، ربما ظنّ البعض أن الأزمة ليست ملحّة، أو أن الحلول التقليدية كافية، لكن اليوم… هل يمكننا تجاهل الحقيقة بعد الآن؟
خطة التحول: القفزة الضفدعية إلى المستقبل!
نحن لا نتحدث عن حلول ترقيعية أو محاولات بائسة لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه، بل عن نهج يعتمد على Direct Data Model، كما أوصت به تقارير Gartner، لتحقيق Frog Leap بدلاً من اتباع مسار بطيء نحو التحوّل الرقمي.
1. تأسيس مركز وطني لنماذج اللغة الضخمة (LLM)
المعلومات ليست مجرد بيانات جامدة، بل تحتاج إلى ذكاء اصطناعي يفهمها، يحللها، ويجعلها قابلة للاستخدام. هنا يأتي دور إنشاء مركز LLM يكون العقل المركزي الذي يتعامل مع البيانات، ويحولها إلى معرفة قابلة للتنفيذ، متماشياً مع ثقافة الدولة وبيئتها التنظيمية.
2. تطبيق إطار DAMA لضبط الحوكمة والملاءمة مع الواقع الوطني
إطار DAMA ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان حوكمة البيانات بشكل صارم، ولكن بشكل يراعي طبيعة الدولة، نظامها الإداري، وبيئتها الثقافية. لا يمكن استيراد نموذج جاهز وإسقاطه كما هو، بل يجب أن يتكيف مع النظام الاجتماعي والاقتصادي للدولة.
3. التحول إلى نموذج البيانات المباشر Direct Data Model
بدلاً من تجميع البيانات في مستودعات ضخمة بلا هدف، يعتمد هذا النموذج على إبقاء البيانات في مصادرها الأصلية مع توفير طبقة ذكية للوصول إليها ومعالجتها فورًا، مما يقلل الفوضى ويرفع الكفاءة. هذا الأسلوب يعكس ما أوصت به تقارير Gartner، حيث يمكننا القفز مباشرة إلى مستقبل يعتمد على البيانات الفورية، دون الحاجة إلى المرور بمراحل تقليدية طويلة.
4. بناء منظومة بيانات وطنية تتكامل مع النظام الاقتصادي والرقمي (Ecosystem Integration)
يجب ألا تكون البيانات حبيسة المؤسسات الحكومية فقط، بل يجب أن تتكامل مع القطاع الخاص، الأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، مما يسمح ببناء اقتصاد قائم على المعرفة. البيانات ليست فقط أداة لصانعي القرار، بل يمكن أن تكون قوة اقتصادية تُبنى عليها شركات ناشئة، وتُصمم بها حلول محلية للعالم.
حوكمة البيانات: هل يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدين؟
في الأردن، كما في العديد من الدول، يُنظر إلى الحوكمة كأداة للشفافية، لكن في بعض الحالات، قد تتحول إلى وسيلة تعقيد تزيد من البيروقراطية وتخلق بيئة مثالية للفساد المقنّع. كيف؟
كلما زادت مستويات الحوكمة دون وجود إطار عمل متكامل، زاد عدد الإجراءات، وكلما زادت الإجراءات، زادت الحاجة إلى التوقيعات والموافقات، مما يفتح المجال لممارسات غير نزيهة مثل “التسهيلات الخاصة” أو “التجاوزات النظامية” لصالح من يملك النفوذ.
ولهذا، فإن الانتقال إلى مؤسسة بيانات وطنية يجب أن يتم وفق استراتيجية واضحة ومدروسة بعناية، وإلا سيقع الأردن مرة أخرى في مصيدة “Suspension Zone” وفق نموذج CWS، حيث يتم تنفيذ المبادرات بدون فعالية، وتبقى الدولة عالقة بين البيانات المتراكمة غير المستغلة، والأنظمة المعقدة التي لا تسهّل الوصول إلى المعلومات بمرونة.
عناصر نجاح إدارة البيانات على المستوى الحكومي
1. إدارة العمليات (Operation Management)
أي تحول رقمي يحتاج إلى إدارة عمليات فعالة لضمان تكامل الأنظمة، والتنسيق بين المؤسسات المختلفة، وتحديث البنية التحتية بشكل مستمر. يجب إنشاء وحدة مركزية لإدارة العمليات الرقمية، تتولى تنفيذ السياسات والقرارات بشكل عملي وفعال.
2. مستوى المشاركة (Level of Involvement)
نجاح التحول يعتمد على إشراك جميع الجهات الفاعلة، من المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني. بدون مشاركة حقيقية، ستظل الجهود حبرًا على ورق.
3. التواصل مع الجهات المعنية (Stakeholders Communication)
لا يمكن بناء نظام بيانات وطني بدون وضوح في الرؤية. كل جهة معنية يجب أن تفهم دورها، ومسؤولياتها، وأهداف التحول الرقمي. فشل التواصل يعني فشل المشروع بأكمله.
4. الهيكل الداخلي والتدابير (Internal Structure and Measures)
الهيكل الداخلي لمؤسسة البيانات يجب أن يكون مرنًا، قائمًا على آليات واضحة لضمان استدامة النظام. بدون مقاييس نجاح محددة، سيكون من المستحيل معرفة ما إذا كان التحول يحقق أهدافه أم لا.
ماذا لو استمعنا في 2020؟
خلال أزمة كورونا، طُرحت هذه الأفكار، لكن لم يكن الوقت مناسبًا للاستماع. كانت العجلة تدور في اتجاه آخر، والقرارات تُتخذ بشكل سريع لمعالجة الأزمة المباشرة. لكن اليوم، هل يمكننا الادعاء بأننا نملك رفاهية التأخير؟
إن لم ننفذ هذه الخطة الآن، فسنجد أنفسنا في عام 2030 نحاول حل مشكلات عام 2025، بنفس الطريقة التي نحاول فيها الآن حل مشكلات 2020. الفرق الوحيد أننا سنكون قد أضعنا سنوات أخرى دون إنجاز.
لقد تأخرنا كثيرًا، لكن لا يزال هناك وقت للقفز إلى المستقبل… إذا كنا مستعدين لسماع الحقيقة هذه المرة