وطنا اليوم:السياسة ليست سوى رقصة متقنة فوق حافة الهاوية، حيث لا شيء يُحسم إلا عندما تلتقي المصالح وتتلاقح الضرورات. ومنذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، والغرب يصوّر المعركة على أنها صراع وجودي بين “الحرية” و”الاستبداد”، لكن مع تغير موازين القوى، تتبدد الشعارات، ويظهر الوجه الحقيقي للصراع: حرب على السلطة والنفوذ والثروات. اليوم، ومع اقتراب موسكو وواشنطن من تصالح يُعيد تشكيل المشهد الدولي، يصبح السؤال أكثر تعقيدًا: هل نحن أمام تسوية تنهي حربًا واحدة، أم أمام ولادة نظام عالمي جديد تكتب ملامحه بالنار والذهب؟
في قلب هذه التسوية، لا تبدو أوكرانيا سوى ورقة تُحرَّك حسب مصالح الكبار. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض بنهج لا يعترف بالعواطف، يطرح معادلة صارخة: تتخلى كييف عن بعض أراضيها، وتضمن موسكو مكاسبها الاستراتيجية، فيما تحصل واشنطن على نصف ثروات أوكرانيا المعدنية، في صفقة تعكس جوهر السياسة الدولية—حيث لا شيء أغلى من المصالح، ولا شيء أرخص من الشعارات. لم يكن هذا الصراع يومًا من أجل “دعم الديمقراطية”، بل كان اختبارًا لمن يستطيع رسم حدود الهيمنة الجديدة. بوتين، الذي خاض حربًا ليُعيد لروسيا مكانتها كقوة عظمى، يدرك أن الصراع لم يكن مع أوكرانيا، بل مع الغرب نفسه. وإذا كانت واشنطن مستعدة لتقديم عرض يُعيد لروسيا بعضًا مما فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فلماذا لا تقبل موسكو بالجلوس إلى الطاولة؟
لكن، كما أن المصالح لا تتجزأ، فإن الأزمات لا تبقى محصورة في جغرافيا واحدة. الشرق الأوسط، الذي لطالما كان مختبر السياسات الدولية وساحةً تُحسم فيها صراعات الكبار، ليس بعيدًا عن هذه المعادلة. فإذا كان التصالح الأمريكي – الروسي سيضع نهاية نسبية للحرب في أوكرانيا، فإنه سيفتح الباب أمام صراع أكثر تعقيدًا في منطقتنا، حيث تتشابك الملفات من فلسطين إلى سوريا، ومن إيران إلى الخليج. كيف ستنعكس هذه الصفقة على الشرق الأوسط؟ الإجابة تكمن في من سيفوز بموقعه في النظام العالمي الجديد، ومن سيتم تهميشه.
واشنطن، التي تتجه نحو إعادة توزيع أولوياتها، تدرك أن الشرق الأوسط لم يعُد ساحة مفتوحة بلا منافسة. روسيا، التي عززت نفوذها في سوريا وأقامت تحالفات استراتيجية مع إيران، لم تعُد مجرد لاعب ثانوي في المعادلة الإقليمية. والصين، التي تتقدم بخطى ثابتة نحو ملء الفراغ الأمريكي، لم تعد تقف عند حدود الاقتصاد، بل أصبحت شريكًا في إعادة رسم الخرائط السياسية. فهل يعني التصالح الأمريكي – الروسي أن واشنطن ستخفف من تدخلها في الشرق الأوسط لتُركز على مواجهة الصين؟ وهل ستُعيد موسكو ترتيب أوراقها في المنطقة لتعويض ما قد تقدمه من تنازلات في أوكرانيا؟
المعادلة الأهم هنا أن أي تغيير في موازين القوى بين روسيا وأمريكا سينعكس مباشرة على الشرق الأوسط. فإذا كان الثمن الذي ستدفعه كييف هو أراضيها وثرواتها، فهل يكون الثمن الذي تدفعه بعض دول المنطقة هو نفوذها واستقلال قرارها السياسي؟ وإذا كانت التسوية في أوكرانيا تقوم على تقاسم المصالح، فهل نشهد تسويات مماثلة في سوريا أو العراق أو حتى القضية الفلسطينية؟
هذا ليس مجرد تصالح بين قوتين عظميين، بل هو عملية إعادة ترتيب للأوراق على نطاق أوسع. الشرق الأوسط، الذي اعتاد أن يكون في قلب صراعات القوى الكبرى، لن يكون هذه المرة استثناءً. التصالح الروسي – الأمريكي ليس إعلانًا عن نهاية الحرب، بل هو بداية لمرحلة جديدة حيث يعاد توزيع السلطة في العالم، وحيث تبقى الحقيقة واحدة: من لا يملك القوة على الطاولة، يصبح هو الطبق الذي يُقدَّم في الوليمة.
بقلم ابراهيم السيوف