شجرة عيد الميلاد الغائبة

منذ 11 ثانية
شجرة عيد الميلاد الغائبة

د.عبد الفتاح طوقان

ادخلت قسم الحضانة وانا في عمر الثالثة من العمر الي دار الراهبات الفرنسيسكان مرسلات مريم، والتي هي مدرسة كاثوليكية بالإسكندرية تحمل اسم جيرار انشئت عام ١٨٩٠ ميلادية عمرها ١٣٥ سنه و تبلغ مساحتها ٤٠٠٠ متر مربع ، اي أربع دونمات وهو ما يوازي الفدان في التعريف المصري للأراض و مساحتها تقريبا ، وكانت في الشارع خلف الفيلا التي نقطنها ، ” كانت الفيلا لأغنى اليهود ثراءآ في مصر ‘بوليتي” تاجر الألماس و صاحب شركات الملاحة و دور السينما ” تقع في الحي الدبلوماسي الراقي في سابا باشا وهي منطقة الصفوة و القنصليات والبعثات الدبلوماسية، حيث كانت القنصلية السويسرية و الروسية و منزل القنصل الليبي والفرنسي و البلجيكي و الروسي و السويسري وكبار الاطباء و منهم الطبيب الخاص للرئيس جمال عبد الناصر، و الوزير المفوض إبراهيم محمود القنصل المصري في القدس في الأربعينات و سفير مصر في يوغسلافيا، و تمام الدين باشا رضا من أقرباء الملك فاروق، وأحمد الشلقاني و ابنته الفنانة شريهان خورشيد رائدة الفن الاستعراضي و أيقونة فوازير رمضان في الثمانينات و الامير محمد فاروق شريف، وقد علمت مؤخرا ان الانبا إبراهيم اسحق بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك قد نقل ملكية مدرسة جيرار من دار راهبات الفرنسيسكان ،مرسلات مريم، الي الإبراشية البطريركية .

لقد كانت أيام جميلة يصطحبني ذهابا وايابا الحارس بواب الفيلا القادم من الصعيد “عم يونس” رحمه الله. والذي كان يأتي لنا في كل عام
يذهب بإجازته السنوية خلال الكريسمس و رأس السنة ومعه زوجته “زينب” الي الأقصر بالقطار محملا بالكركديه المشروب الأحمر السائد والأشهر في جنوب مصر والذي يعد مضادا طبيعيا لالتهابات وأمراض البرد والانفلونزا والعظام والسرطان والفول السوداني.

كانت جيرار بدايات فهمي ان الدين هو “المحبة” واطلاعي المبكر على المسيحية رغم صغر سني وقد تعلقت كثيرا بتمثال السيدة “مريم” العذراء والذي كان في مدخل بهو المدرسة، وربما كان هو سبب قبولي رغم صغر سني ، عندما شاهدتني الراهبة واقفا امام التمثال متأملا ومتفائلا متعلقا بابنها الرضيع التي كانت تحمله بيدها، سيدنا المسيح عليه السلام

وكم اذكر الهدايا وشجرة عيد الميلاد الكبيرة في جيرار والزينة على الجدران والحلويات وبهجة الاطفال الذي انا منهم واعود الي الفيلا محملا بأكياس الحلوى والشوكولاتة ،كما هي الترانيم وضوء الشموع الذي تقيمه المدرسة. و كانت شجرة عيد الميلاد دوما في منزلنا و استمرّت الي يومنا هذا عاده لا تفارقنا ترمز الي الحيوية و الحياة المتجددة نضع عليها نجمة بيت لحم.

بعدها ادخلت حضانة كليه فيكتوريا واستمريت بها حتى انهيت التوجيهي ( الثانوية العامة)، وكنت الطالب الوحيد المسلم والذي احرص على حضور دروس المسيحية كل عام دراسي والتي تعطيها المعلمة ماري ، وهي سيده مسيحية متزوجة من أحد خريجين كلية فيكتوريا وكانت تدرس الديانة المسيحية والديانة اليهودية واللغة الفرنسية ، وزوجها هو الأستاذ تشارلز حمدي نائب المدير ورئيس قسم العلوم بالمدرسة، وبالمناسبة هو مهندس حاصل على ماجستير الهندسة من جامعة مانشستر وكان يحظى بإعجاب الطلاب جميعا، و حمل اسم عائلة “حمدي” نسبة الي الرجل المسلم الذي تبناه بعد وفاه والديه

كانت احتفالات الكريسمس ورأس السنة الميلادية تقام كل عام بحضور الطلاب وأسرهم من كافة الديانات في احتفالية تشاركية بفرحة عيد الميلاد المليئة بالبركات والأمل والسعادة و بوجود شجرة عيد ميلاد كبرى تمثل سلامه الحياة في الحاضر و المستقبل كما قيل لنا احتفالا بالليلة المقدسة ، و كانت الشخصية الأسطورية البابا نويل متواجدا محملا بالهدايا التى كانت تسعد الجميع مسلمين و مسيحين ، لم تنس كلية فيكتوريا ان تضع جراب الميلاد لنكتب رسائلنا و طلباتنا، كانت البهجة للجميع موحده للأطراف والديانات ، في قاعة الطعام بكلية فيكتوريا والتي تتسع لثلاثة الاف شخص ومجهزة بكل ما تحتاجه اي قاعه احتفالات وكانت الاكبر حينها مساحة وتجهيزا من اي فنادق خاصة.

كانت عمتي ، يسرى طوقان مؤسسة الهلال الأحمر والاتحاد النسائي في الاردن تعيش معنا وفي كل مناسبه كانت تآتي بعدد من الصلبان الذهبية الصغيرة مع سلسال رفيع ذهبي من مدينة بيت لحم ومن كنيسة المهد ، كل صليب موضوع في بيضه بيضاء بلاستيكية ، وهو ما اشتهرت به المدينة الفلسطينية وتهديهم الي المعلمات المسيحيات ممن يدرسونا في كلية فيكتوريا. و مع مرور الوقت أصبحت الصلبان من بيت لحم منتشرة في المدرسة و اغلب المعلمات المسيحيات كانوا يرغبون في الحصول عليه وكانت عمتي باستمرار مع بداية كل عام تقوم بذلك حتى عرفت بانني ” الطالب الذي يهدى الصليب وينشره في المدرسة”.

كنا ننتظر صباح تلك الأعياد لنتبادل الهدايا و نضئ شمعه شجرة الميلاد، ونآكل التفاح الأحمر المغلف بشمع العسل،و في كل عام يتزايد المحتفلون بالعام الجديد.

لأول مره خلال خمس وستون عاما لا نضع شجرة ميلاد في بيتنا، وهو ما سبب لنا الما و اكتئابا وحزنا عميقا، و الذي هو تقليد لم يفارقنا في اي من السنوات التى عشنها ، بسبب مآساه غزة و قصف جنوب لبنان و استهداف لبنان و استمرار العدوان على الدول العربية و احتلال ربع سوريه و قصف آلياتها العسكرية، كلنا حزن وسط تحديات الحرب و الإبادة ،غابت عنا مظاهر الزينة و شجرة الميلاد و اكتفينا بشجرة زيتون بلاستيكية من موقع “أمازون” وضعنا عليها بعض الإضاءة و الشموع فقط و بقينا نصلي و ندعو لأجل وقف الحرب و الإبادة المستمرة و نحن نتابع أكوام الركام و الضحايا و الأبرياء من الاطفال القتلى و القصف الجوي و الصمت العربي المخزي، صلاه لا تفتقد للأمل متسائلين من سيبقى حيا ليحتفل باعياد الميلاد المجيدة العام القادم من المسيحيين و المسلميين حد سواء ومن سيضئ شمعه عيد الميلاد في البلاد المحررة بإذن الله . كل البلاد لانه لم يعد بلد الا محتل او تابع للاحتلال بلا استثناء!!!!!!!!

كل عام و أعياد الميلاد المجيدة بخير و سلام