وطنا اليوم_عبد الحميد باكير
كاتب في جريدة “الديموخك” / جمهورية الشيشان
في أواخر القرن التاسع عشر، وبعد خسارتهم للحروب غير المتكافئة مع روسيا القيصرية للحفاظ على دينهم وهويتهم، قررت بعض العشائر الشيشانية الهجرة فرارًا بدينهم ولضمان نشأة أولادهم في بيئة إسلامية يتقنون فيها لغة القرآن وعلومه. كانت الوجهة المقصودة أرض الحشد والرباط.
قطع الشيشان آلاف الكيلومترات في رحلة الهجرة بوسائل نقل بدائية عبر الجبال والسهول والوديان، مات فيها من مات تعبًا ومرضًا وحسرة على فراق الأهل، وبقي البعض منهم في الأراضي التركية والسورية إذ أنهكهم الطريق. وصل المهاجرون الشيشان إلى الأردن عام 1903 واستقرت العشائر الشيشانية فيه، فأسسوا القرى التي جذبت إليها إخوتهم من العشائر الأردنية، ونشأت بينهم أواصر الصداقة وحسن الجوار. استمر الحال هكذا في المنطقة التي كانت تحت الحكم العثماني حتى عام 1918، إذ انتهى الحكم العثماني فبقيت الأردن في حالة من عدم الاستقرار لعدم وجود حاكم يتولى أمورها.
نما إلى علم الشيشان خبر انطلاق الأمير عبد الله بن الحسين (الملك المؤسس) من سوريا إلى الأردن بواسطة قطار الخط الحجازي، فاستبشروا خيرًا بقدوم حاكم من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكمهم. ولكن بعد سماعهم بخطة الفرنسيين لاعتراض القطار الذي يُقِلّ الأمير لمنعه من الوصول وإقامة دولة في الأردن ليحتلوها، انطلقت مجموعة من الفرسان الشيشان بقيادة أبو بكر أسندر وأحاطوا بالقطار واضطروا الفرنسيين إلى التراجع. وصل الأمير عبد الله بن الحسين إلى الأردن وأسس إمارة شرق الأردن في 11 نيسان من عام 1921، وهكذا بعد أن اختار الشيشان بلدهم عند هجرتهم، اختاروا هذه المرة من يحكمهم من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
بتاريخ 25 أيار من عام 1946، استقلت الأردن استقلالاً تامًا وصارت المملكة الأردنية الهاشمية بقيادة الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين رحمه الله. عاش الشيشان في الأردن مواطنين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة جنبًا إلى جنب مع إخوتهم من العشائر الأخرى، فكانت الأردن أكثر دولة احتضنتهم وضمنت حقوقهم في الاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم الشيشانية دون عوائق. بل واصل الملك حسين بن طلال رحمه الله نهج جده في تعزيز الهوية الشيشانية من خلال المشاركة في أنشطتهم الثقافية وتشجيع أسرته الهاشمية على ذلك، حيث أن ابنه الأمير هاشم بن الحسين حفظه الله هو الرئيس الفخري للنادي القوقازي الأردني الذي يُعَدّ أقدم نادٍ رياضي في الأردن.
وإلى يومنا هذا، يفاخر شيشان جمهورية الشيشان بشيشان الأردن ويبدون إعجابهم واستغرابهم من عدم تخليهم عن هويتهم ولغتهم وثقافتهم بعد مرور أكثر من 120 سنة على الهجرة من أرض أجدادهم، بالرغم من أن كل الذين هاجروا إلى دول أخرى فقدوا هويتهم ولغتهم.
تقول كاتبة ومؤرخة في جمهورية الشيشان:
“أبلغ من العمر 69 سنة. لا أزال أذكر الصورة التي كان يحتفظ بها جدي في صدر البيت لجلالة المغفور له الملك حسين بن طلال ملك الأردن، تقديرًا ومحبة للهاشميين لرعايتهم للشيشان وتعيينهم في مناصب والسماح لهم بالمحافظة على عاداتهم.” (مترجم من الشيشانية).
ويقول مساعد مدير اتحاد الكتاب في الشيشان:
“لا يزال إخواننا وأخواتنا في المهجر يحافظون على لغتهم. ويعود سبب ذلك للحريات التي منحها لهم ملك البلد. عندما أتحدث مع إخواننا شيشان الأردن بلغتنا لا يسعني إلا أن أدعو بالتوفيق للهاشميين، أحفاد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.” (مترجم من الشيشانية).
وتقول مدرسة في مدارس العاصمة:
“أهلنا الشيشان، الذين عانوا الكثير من تهجير وحرمان ومن ممارسة دينهم، وجدوا الترحيب مع إخوانهم الأردنيين كونهم إخوان في الدين بحق.” (مترجم من الشيشانية).
تقديرًا من الأسرة الهاشمية لهجرة العشائر الشيشانية إلى أرض الرباط حبًا لدينهم وتفانيهم في خدمة الأردن وقيادته من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسرت لهم الوسائل التي من خلالها تمكنوا من الاحتفاظ بثقافتهم ولغتهم الشيشانية ما آثار إعجاب قومهم في جمهورية الشيشان، والذين مورست عليهم في فترة من الفترات ضغوطات للتخلي عن لغتهم وثقافتهم.
وتستمر المسيرة الهاشمية في رعاية الأردنيين من شتى المنابت والأصول بقيادة الملك الهاشمي عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله، ومشاركته جميع أبناء الأردن في كل نواحي حياتهم تعزيزًا لهذه المملكة الحبيبة إلى قلوبهم.