وطنا اليوم:يشهد عصرنا نموًا كبيرًا في حركة البيانات بفضل التطور التقني المتسارع وانتشار الأجهزة الذكية، وقد وضع هذا النمو الكبير تقنيات الاتصال التقليدية، مثل (الواي فاي) Wi-Fi، تحت ضغط متزايد. ولتلبية هذه الحاجة الملحة إلى سرعات عالية، ظهرت تقنية واعدة تحمل اسم (Li-Fi)، تعتمد على الضوء لنقل البيانات، وتَعد بقفزة نوعية في مجال الاتصالات اللاسلكية، إذ تفوق سرعتها التقنيات التقليدية بكثير.
ولكن ما تقنية (Li-Fi)، وكيف تعمل، وهل ستكون الحل الأمثل لعصر الإنترنت الفائق السرعة؟
أولًا، ما تقنية (Li-Fi)؟
تستخدم تقنية (Light Fidelity) – التي تُعرف اختصارًا باسم (Li-Fi) – الضوء لنقل البيانات بدلًا من الموجات الراديوية التي تستخدم في تقنية (الواي فاي)، لذلك تتميز بقدرتها على تحقيق سرعات نقل بيانات تفوق سرعات تقنية الواي فاي التقليدية بمئات المرات.
وبدلًا من استخدام هوائيات الراديو، تستخدم هذه التقنية المبتكرة مصادر الضوء – مثل مصابيح LED – المزودة بإلكترونيات وبصريات إضافية لإرسال البيانات المضمنة في أشعتها بسرعة عالية، ومن الناحية النظرية، توفر تقنية (Li-Fi) لمستخدمي الإنترنت اتصالات لاسلكية أسرع بأكثر من 100 مرة من أجهزة توجيه (الواي فاي) لأن الضوء له نطاق ترددي أكبر من الموجات الراديوية.
كما توفر تقنية (Li-Fi) أمانًا أكبر للبيانات لأن إشارتها لا تمر عبر الجدران، لذلك يمكن استخدامها في المناطق التي يكون فيها التردد اللاسلكي غير مرغوب فيه، مثل: المستشفيات والطائرات والمنشآت العسكرية.
وقد بدأت قصة تقنية (Li-Fi) في مطلع القرن الحادي والعشرين، وتأسست على يد البروفيسور الألماني هارالد هاس وفريقه، حينما اكتشف إمكانية استخدام الضوء لنقل البيانات في الاتجاهين.
وحصل هاس على درجة الهندسة من معهد نورمبرج للتكنولوجيا وعمل في مجال الاتصالات في كبرى الشركات التقنية مثل: نوكيا و Siemens، قبل حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة إدنبرة في عام 2001. ثم واصل لاحقًا أبحاثه في مجال الاتصالات اللاسلكية الضوئية والاتصالات اللاسلكية الضوئية الهجينة.
وفي عام 2011، حققت أبحاثه نقطة تحول رئيسية، حينما ألقى محاضرة في مؤتمر TED العالمي، كشف فيها عن إمكانية استخدام الضوء كوسيلة للاتصال اللاسلكي، وأطلق مصطلح (Li-Fi) أول مرة.
واستكمالًا لرؤيته الثورية، قدم البروفيسور (هارالد هاس) في مؤتمر TED في عام 2015 في لندن، عرضًا للتقنية الجديدة في محاضرة بعنوان (تعرف إنترنت Li-Fi الجديد)، إذ قدم تجربة مباشرة لبث مقطع فيديو عبر يوتيوب باستخدام موجات الضوء المنبعثة من مصباح موجود على الطاولة، واقترح هاس في محاضرته استخدام الطاقة الشمسية لتشغيل مصابيح LED، لتوصيل الإنترنت إلى المناطق التي تعاني نقص البنية التحتية. وقد لاقت هذه الفكرة الثورية رواجًا كبيرًا، لأنها تهدف إلى سد الفجوة الرقمية وتوفير فرص جديدة للتعليم والتطور في هذه المناطق.
وأسس البروفيسور هارالد هاس، بالتعاون الدكتور مصطفى أفغاني، في عام 2012 شركة (pureLiFi) كشركة فرعية تابعة لجامعة إدنبرة. وقد جمعت الشركة حتى الآن أكثر من 37.9 مليون يورو من رأس المال الاستثماري، وتسوق بالفعل أول هوائيات ضوئية تجارية في العالم لأجهزة مختلفة بما يشمل: نظارات الواقع المعزز والواقع الافتراضي والهواتف الذكية.
كما تقدم الشركة أنظمة (Li-Fi) للعملاء الذين يسعون إلى تحسين سرعات شبكاتهم اللاسلكية. ويستهدف هاس وفريقه طرحًا عالميًا لهذه التقنية الثورية، إذ يتوقع الخبراء أن تبلغ قيمة سوق تقنية (Li-Fi) نحو 7.7 مليارات يورو بحلول عام 2030، مما يدل على الإمكانات الهائلة لهذه التقنية الجديدة.
ومنذ ظهور تقنية (Li-Fi) أول مرة، بدأت العديد من الشركات حول العالم بتطويرها، ومن أبرز تلك الشركات شركة (Oledcomm) الفرنسية، التي تقدم اليوم مجموعة متكاملة من الحلول التي تمكن الأفراد والشركات من الاستفادة من هذه التقنية المتطورة.
وفي إطار جهودها المتواصلة لتطوير هذه التقنية الثورية، تعاونت شركة (Oledcomm) مع وكالة الفضاء الأوروبية لاختبار تقنية Li-Fi في بيئة الفضاء، وذلك عند إطلاق الصاروخ (أريان 6)، في شهر يوليو الماضي.
ثانيًا، كيف تعمل تقنية (Li-Fi)؟
تعتمد آلية عمل تقنية (Li-Fi) على تحويل البيانات الرقمية إلى إشارات ضوئية عالية التردد، لا يمكن للعين المجردة رؤيتها. ويحدث ذلك بعد ذلك إرسال هذه الإشارات الضوئية من مصدر ضوء، مثل مصباح LED، إلى جهاز استقبال مزود بمحول ضوئي كهربائي، ثم يحول هذا المحول الإشارات الضوئية مرة أخرى إلى بيانات رقمية يمكن للجهاز فهمها واستخدامها.
المكونات الأساسية لنظام Li-Fi:
مصدر الضوء: عادة ما يكون مصباح LED، حيث يمكن التحكم في شدة الضوء وتردداته بدقة عالية.
وحدة تحكم: تقوم بتحويل البيانات الرقمية إلى إشارات ضوئية وإرسالها عبر الضوء.
جهاز استقبال: يحتوي على مستشعر ضوئي يحول الإشارات الضوئية الواردة إلى إشارات كهربائية، ثم إلى بيانات رقمية.
ثالثًا؛ ماذا تعني تقنية (Li-Fi) بالنسبة للإنترنت؟
ظهرت تقنية (Wi-Fi) أول مرة في عام 1996، وفي السنوات القليلة الماضية تطورت حتى وصلنا إلى (Wi-Fi 6) ثم (Wi-Fi 6E)، ثم ظهرت في بداية هذا العام شبكات (Wi-Fi 7) وهي الجيل الجديد من شبكات الواي فاي، والتغيير الأكبر فيها سيكون الزيادة الكبيرة في سرعات نقل البيانات.
فوفقًا لمنظمة Wi-Fi Alliance، يمكن أن تزيد معدلات نقل البيانات عبر شبكات (Wi-Fi 7) عن 40 جيجابت في الثانية، مما يجعلها أسرع أربع مرات من شبكات (Wi-Fi 6)، و (Wi-Fi 6E)، كما ستكون أسرع بنحو ست مرات من شبكات Wi-Fi 5.
ومع ذلك هذه السرعة لا تقارن بالسرعات التي تقدمها تقنية (Li-Fi)، فمن الناحية النظرية، (Li-Fi) قادرة على تقديم سرعات تصل إلى 224 جيجابت في الثانية، وهذه السرعات الفائقة تجعلها مثالية للاستخدامات التي تتطلب اتصالات فائقة السرعة، مثل: المدن الذكية، وتطبيقات الواقع الافتراضي، وبث الفيديو بدقة قدرها 4K، والألعاب عبر الإنترنت. ونظرًا إلى قلة زمن الاستجابة، فإن تجربة المستخدم ستكون أكثر سلاسة.
ولكن ليست السرعة هي أهم ما يميز تقنية (Li-Fi)، بل الأمان العالي؛ لأن اعتمادها على الضوء بدلًا من الموجات اللاسلكية، يجعلها محصنة من التداخل مع موجات الراديو والاختراقات الأمنية، بالإضافة إلى ذلك فهي أكثر أمانًا للصحة بسبب انخفاض مستوى الإشعاع الكهرومغناطيسي المنبعث منها. لذلك فهي تقنية واعدة للمستقبل، إذ يمكن أن تُحدث ثورة في طريقة تفاعلنا مع الأجهزة.
إليك أهم مزايا تقنية (Li-Fi):
السرعة الفائقة: تتمتع تقنية (Li-Fi) بسرعات نقل بيانات تفوق سرعات الواي فاي التقليدية بكثير، مما يجعلها مثالية للاستخدامات التي تتطلب اتصالات فائقة السرعة.
الأمان العالي: تُعدّ هذه التقنية أكثر أمانًا من الواي فاي، لأن إشارات الضوء لا يمكنها اختراق الجدران، مما يقلل من خطر اختراق البيانات.
الاتصال الأكثر استقرارًا: لا تتأثر الإشارات الضوئية بالتداخلات الكهرومغناطيسية التي تؤثر في الواي فاي، مما يضمن اتصالًا أكثر استقرارًا.
الكفاءة: تقنية Li-Fi أكثر كفاءة في استخدام الطاقة لأنها تستغل قوة مصابيح LED.
التوفر: مصادر الضوء موجودة في كل مكان، مما يزيد من احتمالية توفير الاتصال بالإنترنت حتى في الأماكن التي لا تتوفر فيها بنية تحتية لشبكات الإنترنت الحالية.
رابعًا؛ ما التحديات التي تواجه تقنية (Li-Fi)؟
تُعدّ تقنية (Li-Fi) واحدة من أهم التقنيات الناشئة في مجال الاتصالات اللاسلكية، ولكنها لا تزال في مرحلة التطوير. وتواجه هذه التقنية العديد من التحديات التي يجب معالجتها قبل أن تصبح متاحة على نطاق واسع، ومنها:
النطاق المحدود: سيقتصر اتصال الإنترنت على الأماكن المغلقة لأن هذه التقنية تعتمد على مصادر الضوء، وهنا ستواجه المؤسسات والشركات الكبيرة صعوبة كبيرة في استخدام هذه التقنية.
التوافق المحدود: تتطلب هذه التقنية أجهزة إلكترونية مزودة بمستقبلات ضوئية خاصة، وهي ليست متوفرة في معظم الأجهزة الإلكترونية الحالية.
الحاجة إلى معايير موحدة: لا توجد معايير عالمية موحدة لتقنية (Li-Fi) حتى الآن، مما يؤثر في التوافق بين الأجهزة المختلفة.
في الوقت الحاضر، لا تزال تقنية (Li-Fi) في مرحلة البحث والتطوير في الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم. ولكن تتوقع الشركات العاملة في تطويرها مثل شركة (Oldecomm) الفرنسية، أن تصبح هذه التقنية متاحة تجاريًا خلال السنوات الخمس المقبلة، وذلك يعتمد على حجم الاستثمارات في هذا المجال.
ومع ذلك تؤكد (مجموعة LiFi)، وهي المنظمة التي تعمل على تطوير هذه التقنية والترويج لها – أننا على عتبة ثورة في مجال الاتصالات، إذ تصفها بأنها التقنية المثالية للقطاعات التي تتطلب أعلى درجات الأمان، مثل القطاعات العسكرية والحكومية، وذلك بفضل قدرتها على نقل البيانات الحساسة بأمان عالٍ، كما تستفيد منها قطاعات أخرى حاليًا، مثل الطيران، إذ تستخدمها شركة (Spectrum Networks LLC) لتطوير حلول مبتكرة توفر اتصالات لاسلكية آمنة وسريعة للمسافرين.
علاوة على ذلك، هناك اهتمام متزايد بين الشركات الأمريكية التي تمول الأبحاث لتطوير هذه التقنية الثورية، إذ تستثمر شركات مثل VLNComm وSignify بكثافة في تطويرها، وتسعى هذه الشركات إلى تطوير حلول مبتكرة تعتمد على تقنية (Li-Fi)، مما يعزز مكانة الولايات المتحدة كرائدة عالمية في هذا المجال.
سادسًا، ما مستقبل تقنية (Li-Fi)؟
أكد متحدث باسم (مجموعة LiFi) في تصريح لموقع (CNET) أن هناك اهتمامًا متزايدًا بتقنية (Li-Fi) من شركات متعددة في قطاعات متنوعة مثل: الإلكترونيات الاستهلاكية والسيارات والاتصالات، وهذا الاهتمام يدفع المزيد من الشراكات والبحوث إلى تطوير تطبيقات عملية لهذه التقنية، خاصة في البيئات التي تواجه فيها تقنيات الاتصال التقليدية تحديات.
في الختام، تُعدّ تقنية Li-Fi واحدة من أهم التقنيات الناشئة، التي من المتوقع أن تحدث ثورة في عالم الاتصالات، ولكنها تحتاج إلى المزيد من الوقت والتطوير للتغلب على التحديات الحالية وتحقيق انتشار واسع. ومع استمرار الأبحاث والتطوير في هذا المجال، نتوقع ظهور تطبيقات جديدة ومبتكرة قريبًا تساهم في تحسين حياتنا اليومية.