كتب د. تيسير عبدالله:الحياة في غزة ليست قاسية. وتقتل أبناءها. بسبب القصف المستمر فحسب. ولكنها فتاكة ومروعة. توفر كل أسباب الموت الصامت والبطيء حتى بدون قصف:. الحرمان من الدواء والرعاية والطعام والماء الصحي والسعادة. وتزيد مئات من مسببات القهر والإحباط والكآبة والانكسار والأمراض والأوبئة.
لا أظن أن عمليات الإبادة. رغم أعداد ضحاياها الكثيرين. التي ينفذها الاحتلال كل ثانية. هي المسبب الأول للموت في غزة. فالموت الصامت والبطئ الذي يجرف المئات يوميا بعيدا عن أعين الكاميرات ووسائل الإعلام. وعدساته. أصبح هو المسبب الأول للموت.
ظروف الحياة المميتة التي صممها الاحتلال للمواطنين. بالحصار والضغط والمنع. جعل الموت السهل للجميع مسألة وقت. الجميع يقااوم عمليات انهياره وإنهاكه وفق قدراته الصحية والجسمية. كنحلة تقاوم على حافة كأس الشاي الساخن السقوط فيه. البعض يقااوم لأسبوع. والبعض لشهر لشهرين لخمسة لتسعة. لكن في الأخير. الجميع يتسافط بالتدريج.
كل الغزيين مخنوقون في هذا المسلخ المغلق عليهم بجدرانه الأربعة. لا يستطيعون النجاة من الجزار الذي تقطر يداه دما إلا بالهروب من زاوية إلى أخرى. كل الغزيين مكلومون وبالكاد يتصبرون على الحافة. حافة كل شيء التي تسحبهم نحو الهاوية.
فقد الأعزاء والأحبة والأهل والأبناء والآباء والجيران والأقارب. الهدم. النزوح المتكرر. الفراغ والانتظار. القصف المتواصل. العوز. شلل الحياة. الطوابير. التجهيل بإغلاق المدارس والجامعات. الدمار الذي يحاصر مد البصر. سوء التغذية. غياب الأدوية. الاعتقالات. الخوف والرعب من اللحظات القادمة والمستقبل..
سلسلة متواصلة من الضغط والفواجع التي لا تتوقف. ولا تترك مسافة للحزن فيما بينها. أو فواصل بين الألم والألم التالي. لا تترك وقتا للبكاء: الأم الممزقة. وأصوات الاستغاثات تحت الردم. وطلب الإخلاء والهروب في الشوارع للبحث عن مأوى. وقصف الابن الذي تتطابر أشلاؤه على الركام. كلها تمر على شخص في ساعة واحدة كأنه كابوس مخيف لا يستطيع الاستيقاظ منه.
لا توجد فواصل للراحة. أو ترتيب الأفكار والأحداث والوقائع. التدافع جعل الناس مجرد أجساد منهكة تجري في ضياع. غير قادرة على التفكير في شيء غير أنها تتساقط على جانبي الطريق كلما فقدت القدرة على المواصلة.
من يستطيع أن يواصل في هذا الطريق المميت وسط شلالات الدماء منذ أكثر من عشرة أشهر؟. من يستطيع المواصلة والقدرة. ويقول: أنا لم أتعب؟.
الغزيون كلهم الآن يتعرضون لما لا طاقة لهم به. ويصابون بأمراض عميقة تتفاوت بين الاستسلام الكامل للقهر الذي يؤدي إلى الموت الصامت. أو سلسلة من الأمراض الجسدية والعقلية والنفسية المختلفة. فكرة التكيف والاعتياد لا تناسب ما يحدث للمدنيين في غزة. لا يمكن أن يتكيف العنق مع السكين. أو جسد طفل مع شظايا قنبلة. أو مصابون مع الركام الذي يخنقهم ويطبق عليهم. لا يمكن أن تتكيف الحياة مع الموت.
التكيف كلمة رقيقة. تصلح لغصن وردة استطاعت أن تلتف عن زجاج يعيق نموها. أما ما يحدث للغزيين فإنه ذبح حتى النخاع. جز حتى الأوردة. بعثرة كل الأشلاء. فقد نهائي للأبناء والعقل. انهيار كامل للقدرة على التحمل والطاقة. اجتماع الأضداد التي لا تجتمع.
يقول التاريخ إن الإسبرطيين في تربيتهم العسكرية. كانوا يلقون الأطفال بعد ميلادهم مباشرة في الصحراء أياما. فمن يصمد منهم ولم يمت. استحق الرعاية والتربية والاهتمام. ومن يمت منهم يستحق الموت لأنه ضعيف. الضعف سبب كاف للموت دون رحمة.
وكأن هذا الاختبار القاتل. يفرض الآن على الغزيين المدنيين النازحين والمشردين الضعفاء. بأطفالهم في أفران الخيام القاتلة. وظروف الحياة الصعبة والقاسية. دون اختيارهم وبغير رغبتهم.
من يصمد منا فإنه سيصيبه الجنون والألم والأمراض والأوجاع والذكريات المريرة التي لا شفاء منها. أما الضعفاء: أصحاب الأمراض المزمنة والأطفال وكبار السن. فإنهم يموتون بصمت في صخب جنون هذه الإبادة التي لم نكن فيها غير الضحايا الذين يعيشون الموت دائما. وفي جميع الأدوار. ولكنه الموت الإسبرطي:
الضعيف يموت لأنه ضعيف ولم يستطع تحمل هذه الأهوال. لم يستطع تحمل الفقد. لم يستطع تحمل حياة الذل والهوان في الخيام. ومن تكتب له النجاة والحياة. فلن تصفو له بغير العاهات النفسية والجسدية التي ستلازمه بقية حياته.