بقلم المهندس خالد بدوان السماعنة
لطالما درج الناس إلى اللجوء لتعبير «الخاصرة الرخوة» حين يكونون في صدد المعالجات السياسية لتشخيص العضو الأكثر عرضة للتأثر . ولازلنا نذكر صور المباني المهدمة بفعل الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وأدى إلى مقتل أكثر من 46 ألف شخص .. وقد عزى المختصون يومها لتعرض مبانٍ للانهيار بشكل كامل إلى سبب رئيسي وهو اعتمادها على نمط الطابق الرخو أو الضعيف بالبناء. والمقصود بالطابق الرخو هو أن يكون أحد أو بعض طوابق المبنى مكونا من أعمدة فقط، فيما تتكون بقية الطوابق من أعمدة وجدران، مما يجعل البناء معرضا لأضرار مرتفعة في حال حدوث الزلزال.
أدت حكومة بشر الخصاونة اليمين الدستورية في 25 صفر 1442هجري الموافق 12 تشرين الأول 2020م ليعلن بذلك قيام البناء الحكومي المسؤول عن الأردن والأردنيين أمام جلالة الملك، لتكون حكومة بشر الخصاونة هي الثالثة عشر في عهد سيدي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، والحكومة الثانية بعد المئة منذ إعلان استقلال إمارة شرق الأردن عام 1921.
ما إن استلمت الحكومة الجديدة مهامها حتى أصيب القطاع الصحي الأردني بهزات وقواصم كادت تقصم ظهر الحكومة.
كان أشد هذه القواصم على مر تاريخ القطاع الصحي الأردني هو جائحة كورونا.. هذه الجائحة التي ضربت بكل قوتها وثقلها حتى أدخلت القطاع الصحي في نفق المجهول.
بل كان لهذه الجائحة آثارا اقتصادية واجتماعية وسياسية غاية في الخطورة .. وليت الأمر بقي في رحاب المواجهة .. بل وفي خضم هذه المواجهة تحدث فاجعة ضربت القطاع الصحي ضربة موجعة. ذلكم حين استفاق الشارع الأردني على مصيبة أو فاجعة مستشفى السلط الجديد في مارس 2021م. حاصل تفاصيل هذه الفاجعة هو انقطاع الأكسجين عن مرضى الكورونا في المستشفى الذي أودى بحياة عشرة مواطنين أردنيين .. كانت فاجعة اوجعت قلب جلالة الملك على أبنائه حتى ذهب بنفسه إلى موقع الحدث ووجهه ينضح حزنا وغضبا، وتعهد بمحاسبة “كل مقصر”.
استقال وزير الصحة حينها، وتم تكليف الجنرال الفراية بوزارة الصحة بالإضافة إلى وزارة الداخلية إلى حين تكليف وزير جديد يخلف سابقه.
كانت أياما عصيبة على الجنرال في وزارة خلت من القيادات العليا الذين تم إيقافها عن العمل لحين قول القضاء كلمته ..
“لقد قامت القيامة” هذه اشهر عبارة كنت اسمعها في أروقة الوزارة، لم أر الاداريين والمهندسين في حالة خوف وقلق كما كنت أراهم حينها، الجميع قلق، والجميع يراجع ويكشف، والوزير الفراية يصدر قراراته المتتالية بإعادة تقييم كافة سلاسل التوريد والأنظمة الكهربائية بانواعها في كافة منشآت وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة الطاقة وشركات الكهرباء ..تم شراء كافة مخزون الشركات من ال UPS والبطاريات اللازم له وتقييم وإصلاح كافة المولدات ..الخ ..
كانت عملية مراجعة دقيقة وإصلاح وترتيب اوراق كلفت عشرات الآلاف من الدنانير في خضم بضعة أيام .. كل ذلك يجري في خضم معاناة حكومية ترصد طاقاتها المادية لشراء المطاعيم وتأمين أقوات الناس في بيوتهم وهم محجور عليهم.
وتحقيقا لقول من قال شر البلية مايضحك كانت النكتة الدارجة يومها في الوزارة أن مديري المنشآت الصحية ينامون فوق خزانات الأكسجين لضمان سلامة مخزونها.
كان عملي في الوزارة يبدأ الساعة السادسة صباحاً وينتهي بعد انصراف الوزير الفراية بعد منتصف الليل على مدار الأسبوع .. لم أكن أتخيل طوال خدمتي في وزارة الصحة التي تجاوزت الربع قرن أن الوزراء لا يعرفونه النوم الا ساعات قليلة جدا حتى عاينت ذلك بأم عيني .. كنا إذا جاء الموظف متأخرا عن دوامه قلنا له ممازحين: (والله لو إنك وزير !! ) وإذ بالموظف ينام والوزير لا ينام.
في آخر مارس 2021 صدرت الإرادة الملكية بتكليف الدكتور الهواري وزيرا للصحة. معلنة بذلك بداية حقبة جديدة في تاريخ الخاصرة الرخوة لحكومة دولة بشر الخصاونة.
صدقوني لم تكن العملية سهلة ولا سلسة وكانت مليئة بالعقبات الكؤود، لقد راهن الكثيرون على فشل الوزارة بقيادتها الجديدة وسط أمواج البحر المتلاطمة.. ولعل البعض كان يعد أياما لسقوط حكومة دولة بشر الخصاونة بخاصرة رخوة يطلق عليها “وزارة كورونا” تعريضا بكون وزارة الصحة ضربت بالرعاية الصحية الأولية والثانوية والثالثية عرض الحائط ولم يعد لها هم إلا موضوع كورونا والحجر على المواطنين.
جائحة لا ترحم .. وقطاع صحي في خطر يواجه كارثة الانهيار عند اي منعطف .. ومطاعيم تكلفتها بالملايين تعاني من شح الموارد المالية وشح المطعوم ذاته.. ومستشفيات ميدانية أسست في ظروف قاسية وعلى عجلة من أمر الدولة لم تكن تعمل بكامل طاقتها الاستيعابية، وكانت تحتاج إعادة تأهيل لأنظمة الأكسجين فيها لتتواءم مع طبيعة هذه الجائحة .. كوادر طبية وتمريضية بحاجة إلى تدريب على آلية التعامل مع هذا المرض العجيب الغريب.
مرافق صحية ضخمة مغلقة ولا تعمل .. وبمراجعة سريعة لصفحات وزارة الصحة على السوشيال ميديا سنطلع إلى الحجم الهائل للمنجزات التي تمت في وزارة الصحة في الثلاث سنوات الماضية لست في صدد تعدادها.. ناهيك عن اتفاقيات مهمة جدا لم تكن رأت النور بعد .. ومعضلات تخص الكوادر الطبية ومطالباتها بالزيادات المادية .
أول طعنة في خاصرة الحكومة الرخوة بقيادتها الجديدة كانت في حادثة مستشفى الجاردنز ليلة لقاء الوزير الهواري مع جلالة الملك.
نعم فقد كان مقررا لقاء جلالة الملك في اليوم التالي ظهرا .. لنرى مشاهد عجيبة غريبة لسيارة وزير الصحة وهي محاطة بالعشرات من الغاضبين الذين يصرخون بمطالبة الوزير بالاستقالة.
لقد كانت ليلة ليلاء.. ظلم في ابشع صوره .. لا زلت أذكر اتصال معالي الهواري صبيحة اليوم التالي وهو يطلب مني شخصيا تقريراً شافيا وافيا حول حقيقة ماجرى في مستشفى الجاردنز.. ذهبت مباشرة إلى هناك وكان تقريري: لا يوجد انقطاع في الأكسجين والمشكلة كانت كهربائية بحتة وتم التعامل معها بحرفية طبية وهندسية .. وانا مسؤول عن كلامي.
ثم توالت القواصم التي كادت تقصم ظهر الحكومة جراء ضربات أصابت خاصرتها الرخوة .. كان أولها قاصمة انقطاع الكهرباء العام الشامل فعصم الله ظهر الحكومة منها.. ثم قاصمة الانهيار في أرضية خزان الأكسجين في المستشفى الميداني- عمان فعصم الله ظهر الحكومة بقرار نقل مرضى العناية الحثيثة ليلا إلى مستشفى الجاردنز ..كان قرارا يحمل في طياته عواقب خطيرة تم تنفيذه بحرفية عالية وجاهزية ملفتة للنظر … ثم قاصمة جديدة كادت تقضي على الحكومة حين انهار سقف المستشفى الميداني على من فيه .. فعصم الله ظهر الحكومة بقرار وزارة الصحة ترحيلهم في أجواء عاصفة ثلجية صعبة إلى مستشفى الأمير حمزة .. وسلم الجميع .. ولولا الله ثم جاهزية المستشفى واستعداده لهكذا حالة لكانت الخسائر غالية.
ثم جاءت داهية الدواهي وحادثة سقوط خزان مادة الكلوروفيل في العقبة .. كانت القاصمة التي هزت اركان الحكومة … لكن رعاية الله بالأردن تجلت في تسخير أبنائه ليهبوا سراعا .. زرافات ووحدانا إلى العقبة في دقائق معدودة .. برا وجوا .. ولقد كان ذلك كله تحت مرأى ومسمع من الحكومة ووزرائها … المستشفى الميداني في العقبة يتم فتحه وتشغيله في دقائق من قبل كوادر وزارة الصحة .. ليستوعب أكثر من ٨٠٪ من المصابين .. ومرة أخرى خرج الأردن بأقل الخسائر بمن من الله وفضل .. ونجت حكومة دولة بشر الخصاونة من ضربة كادت تكون القاضية في خاصرتها الرخوة .. وكان السؤال الدارج يومها: ماذا لو لم يكن المستشفى الميداني جاهزا ؟!.
أي نعم قد تكون وزارة الصحة بحجم مهامها وخدماتها ومسؤليتها عن صحة المواطن الأردني يمكن أن توصف بالخاصرة الرخوة في جسد اي حكومة .. لكنها اليوم وعن كثب اقولها لله ثم للتاريخ: لقد اشتد عودها،وكما قيل:الضربات التي لا تقصم الظهرتقويه.
اعلم أني قد أطلت ..ولدي في جعبتي الكثير الكثير يصلح أن اجعله في كتاب أعنونه بعنوان ” ليس سهلا أن تكون مديرا في الخاصرة الرخوة “.
دمتم بخير