يوميات الخيمة (5)

18 يونيو 2024
يوميات الخيمة (5)

وطنا اليوم_لا جديد في هذا العيد للمعذبين في الخيام. إلا أنه يشبه وتر عود. أو قصبة ناي. تضخم الدقات والأصوات والمشاعر والذكريات. وتجعلها مرعبة تملأ فضاء الانتظار الحزين. تهيج النفوس والعيون.

 الغائبون جميعا. الشهد.ا.ء والمفقودون والمعتقلون. استيقظوا من غيابهم مع تكبيرات العيد ليزيدوا الأحياء اشتياقا ووجعا. في الأعياد السابقة. كانت الأمهات تزور قبور أبنائها في الصباح. تغرس الورد.

وتسقي الماء. أما في هذا العيد. فقد لاذ الشهد.اء بالخيام واحتموا في عيون النازحين. ونبراتهم وعبراتهم. ينتظرون أن يعود إليهم الورد الذي سلب منهم والبهاء. بعد أن سيطر الاحتلال على قبورهم ونبشها.

 أسرى هذه الأفران البيضاء التي تسمى خياما. يحنون إلى بيوتهم التي يدمرها الاحتلال وينسفها بعبث وتسلية. يحنون إلى شوارعهم وأرائكهم وأسرتهم وملابسهم وغرف نومهم. إلى جيرانهم الذين كانوا يتبادلون معهم تهاني العيد. إلى تفاصيل صغيرة كانت تملأ يومهم سعادة وألقا يفتقدونه.

قال لي بحزن. أنه كان في مثل هذا الصباح يذهب مع شركائه مع فرحة الأطفال لذ..بح أضحيتهم. ينتظرونها من العام إلى العام. كانت تعني لهم أكثر من لحم: فرحة ومحبة. ذهب هذا كله. لا نجد الآن حتى اللحم. منذ ثمانية أشهر لم نذق طعمه. أصابتنا جميع أمراض الدنيا. سوء تغذية يدفعنا إلى الموت البطيء. نشعر بالعجز أمام عيون أطفالنا. لم نعد قادرين أن نوفر لهم طعامهم. بعد أن فقدوا تعليمهم وملامحهم ولونهم الذي أصبح يميل إلى السواد والشحوب معا.

يمر علينا هذا العيد اليوم ونحن وحيدون في الألم والوجع. كل لحظة تستنزف فيها آدميتنا وإنسانيتنا. العوز والحاجة ونقص الماء والطعام. درجة حرارة أكبر من قدرتنا على التحمل. كل شيء ساخن ولافح. الهواء. الفراش. الرمل الذي ننام عليه وينام معنا تحت ملابسنا. ومع مرافقة كل هذا الجحيم لجيوش من الذباب والناموس والحشرات الغريبة الجائعة لجلدنا التي تسببت فيه بندوب وتشوهات مختلفة الأحجام والألوان. لسنا في مجرد خيام. لقد تحولت هذه الخيام إلى أفران من لهب. معتقلات متلاصقة. محطات انتظار للقهر والموت.

في مثل هذا الصباح كنا نجهز الصالون لاستقبال الضيوف. القهوة. والمكسرات. ثم أكملت: وكنت أعد الثواني بقلق لاستقبال أبي وأخوتي. كأنني أميرة أرتدي أجمل ما عندي وأخشى أن يفسد عباءتي الزاهية انسكاب كأس كولا دون توقع.

لم تستطع إكمال حديثها. أخوها الأصغر الذي كان فاكهة الجلسة قتله الاحتلال في قصفه لبيت في الحارة. وأبوها أيضا لا يعرفون عنه شيئا في الشمال. قال لهم اسبقوني إلى الجنوب. وسألحق بكم بعد يومين. بعد تأميني المنزل وحاجاتنا فيه. لم يكونوا يعرفون أنه كان غير قادر على مغادرة المنزل وتركه. كان بيته قطعة من روحه. انقطعت أخباره منذ بداية الحرب: البعض يقول أنه قتل وحيدا في قصف البيت عليه. وآخرون قالوا أن جنود الاحتلال اعتقلوه على حاجز نيتساريم.

لا شيء في هذا العيد للمعذبين في الخيام. إلا أنه يشبه وتر عود. أو قصبة ناي. تضخم الدقات والأصوات والمشاعر والذكريات. لا عيد يشبه وجع هذا العيد وألمه. الجميع يقتله الحنين والاشتياق إلى ماضي عمره أقل من سنة. الجميع ينظر إلى البحر الذي حشرهم الاحتلال على شاطئه الضيق بأسى وصمت. لا يستطيع البوح ولا الكلام حتى لا يفضحه البكاء.