بقلم: زيد أبو زيد
تحدث الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن أكثر من ربع ساعة في خطابه الأول بصفته رئيسًا للولايات المتحدة بعد أدائه اليمن بالتشديد على أهمية الديمقراطية قائلا: “هذا هو يوم أميركا، هذا هو يوم الديمقراطية، أميركا اختبرت، وكانت على قدر التحدي، نحن نحتفل بالديمقراطية اليوم، ورغبة الشعب تم سماعها اليوم، الديمقراطية ثمينة، واليوم انتصرت الديمقراطية”.
وأضاف: “القصة الأميركية لا تعتمد على بعض منا، بل علينا جميعًا، نحن شعب جيد، لقد أنجزنا كثيرًا، لكن لدينا كثيرًا من العمل”.
وبعدها تحدث بايدن عن عدد من الوعود والأهداف التي يسعى لتحقيقها بصفته رئيسا للبلاد، والتي يحتاج فيها لوحدة الشعب كي يساعدوه على تحقيقها.
وقال الرئيس الأميركي الجديد: “بالوحدة نستطيع فعل الكثير، نستطيع أن نؤمن للشعب وظائف جيدة، يمكننا وضع أطفالنا في مدارس آمنة، يمكننا تجاوز الفيروس القاتل”.
وأضاف: “يمكننا إعادة تأسيس الطبقة الوسطى، ويمكننا تحقيق العدالة الاجتماعية، ونجعل أميركا قوة عظمى مجددًا.
ويذكرني هذا الخطاب سيدي القارئ برواية يقال فيها : إن خطيبًا صعد المنبر، فارتج عليه ولم يعرف ماذا يقول، ولكنه بعد انتظار وتقليب الأفكار قال: أيها الناس” إنكم أحوج إلى أمير فعَال منه إلى أمير قوَال” هذا ما لفت نظري وأنا أستمع بإمعان لخطاب الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن الموجه إلى العالم كما أراده مرددًا ما طرحه في حملته الانتخابية من إستراتيجية جديدة تقوم على التغيير وبناء علاقة غير مسبوقة مع العالم، تلك العلاقة التي حطمها سلفه دونالد ترامب في نقله سفارة العدو الصهيوني إلى القدس، وصفقة القرن المشؤومة، وحربه الكلامية على الصين وروسيا، وعبثه بملف الهجرة، ومن ثُم دعمه اللامحدود للكيان الصهيوني، ليبقى متفوقًا عسكريًّا ومتغطرسًا ضد أي مبادرة عربية، متبعًا ذلك فرض سياسته الصهيو- أمريكية، وتمويل خطط التجزئة والتفتيت والحروب الأهلية والطائفية، ومن بعد ذلك وضع المخطط لتقسيم المنطقة، وقبول الكيان الصهيوني فيها بالرغم من أنوف العرب ومعاناة الفلسطينيين، ومن دون التفات لمبادرات العرب وتنازلاتهم واضعًا في ذهنه بناء الإمبراطورية الأمريكية كما حاول قبله جورج بوش الصغير والكبير فأسقط العالم في أتون معارك خاسرة جلبت الدمار والموت ولا زال العالم ومنطقتنا تدفع الثمن غاليا ومشاهد الموت في بغداد شاهدا على ذلك.
وسقط ترامب، وأنت أيها الرئيس بايدن تطرح أمورًا جديدة، اللفظ جميل في بعض وجوهه، ولكنه من الوجهة الأخرى مثير للاستغراب، فأين التغيير وأنت لم تطرح سوى كلام؛ إذ تقول: “الاختلاف يجب ألا يكون بداية للتحارب والتناحر، ويجب أن نحترم قيم بعضنا، أحيانًا سنحتاج يد المساعدة، وأيام أخرى سيطلب منا مد يد العون، هكذا هي الحياة…” كلام جميل، ولكن ما موقفك من احتلال الكيان الصهيوني لأراضي الفلسطينيين والتنكيل بهم ،فهل يكفي الكلام؟ وهل من حل يزيل القهر والتشريد والتهويد عن أرض فلسطين، وهل من مبادرات تجلب لليبيا الإستمرار الاستقلال الناجز ، وهل من حل يخلص العراقيين من قطار الموت.
سيدي القارئ:
حتى لا نُتهم بالتشاؤم، فإننا نستبشر بالرغم من ذلك بتغيير جزئي في سياسة البيت الأبيض في المنطقة العربية، فبايدن لم يذكر كلمة الإرهاب مثلاً، ولا الحرب الأميركية على الإرهاب، ولكنه استعاض عنها بالحديث عن التطرف والعنف، وفي هذا تغيير لفظي قد يحمل مدلولات سياسية مستقبلاً، وهو سلاح طالما استخدمه سلفه ترامب ضد العرب والمسلمين، كما احتل البعد التنموي والتعاون العلمي والتكنولوجي محورًا مهمًّا في خطاب بايدن في السياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم بعد فترة من النظرة الأميركية الاستعلائية إلى العالم، وإلى العالم الإسلامي تحديدًا على أنه تهديد للمصالح والأمن القومي، ويؤكد بايدن دورًا لإدارته في تخفيف بعض القيود العنصرية والسعي إلى علاقات أفضل وأنسنة العلاقات الأمريكية مع العالم؛ إذ يقول”
: “هناك صرخة للعدالة العرقية لم تقف عن النداء لمدة 400 عام، وهي صرخة تحركنا، الحرية والعدالة للجميع هو مبدأ لن يتم تجاهله بعد الآن”.
وأضاف: “هناك صرخة للنجاة تأتي من كوكبنا نفسه، هي في أعلى درجات اليأس”، في إشارة لضرورة التحرك لمحاربة التغير المناخي والمشكلات البيئية.
وقال بايدن: “هناك ارتفاع في التطرف السياسي والتطرف اليميني للبيض والإرهاب الداخلي الذي يجب علينا مواجهته وهزيمته”، في إشارة لقضية ارتفاع التطرف اليميني في البلاد.
وأنهى بايدن هذه الفقرة بقوله: “هذه تحديات لن تسرق مستقبل أميركا وروحها، لأن الأمر يحتاج لأكثر من كلمات، ويحتاج أعمق شيء وهو الوحدة”.
ولكن تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم ليست من الأمور السهلة، ولا سيما أن الصورة السلبية لواشنطن لم تتكون بين عشية وضحاها، ولن تتبدل بين ليلة وضحاها، وإن نجاح الدبلوماسية العامة الأميركية لا يمكن أن تنفصل عن الدبلوماسية الرسمية، ولا تعني سياسة بايدن اللفظية -مع تراجع التأييد للولايات المتحدة الأميركية في العالم العربي والعالم عمومًا وتدهور الصورةالأميركية، والسياسة الأميركية التي كانت وراء هذا التدهور والتراجع في المكانة الأميركية- تغييرًا في ثوابت السياسة الخارجية الأميركية. فالقراءة التاريخية للسياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم الإسلامي، وفي القلب منه الشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى بدايات القرن الحادي والعشرين تكشف أن سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة على اختلافها، ديمقراطية وجمهورية، لم تتغير بصورة جوهرية، فتوجد مصالح إستراتيجية ثابتة منها أمن الكيان الصهيوني، والنفط، وهذه مصالح لم تتغير كثيرًا على اختلاف الإدارات، وهو ما أسس صورة بنيوية ثابتة للسياسة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط، ولذا فإن أي تغيير في السياسة الأميركية تجاه قضايا العالم العربي والإسلامي سيكون تغييرًا تكتيكيًّا وليس إستراتيجيًّا.
ولكن الخطاب لأهمية المكان والزمان يحمل مدخلًا للتصحيح، وهذا بالتأكيد ما يحتاج إلى التمحيص، فالحقيقة أنَ العلاقات مع الولايات المتحدة مرت بين جزر ومد، وجاءت القضية الفلسطينية لتوترها منذ التقسيم وطوال المراحل التالية، فكراهية أميركا متأصلة في الشارع، فهل نحن مقدمون على هدنة مؤقتة مع بايدن، بانتظار ما ستحمله الأيام من تأكيد عملي لسياسته في العالمين العربي والإسلامي؟
وهل سيكون بايدن قادرًا على اتخاذ قرارات غير منحازة للكيان الصهيوني، وغير متأثرة باللوبي الصهيوني، وسيكون على عكس من سبقه رجل سلام وليس رجل حرب، وسيدير العالم إدارة جماعية عاقلة وليس إدارة أحادية هوجاء، وسيسعى إلى الوفاق والحوار بدلاً من الصراع والصدام، وسيعتمد الأسلوب الدبلوماسي بدلاً من الأسلوب العسكري في التعامل مع الخلافات والأزمات والقضايا العالمية الساخنة والصعبة التي جعلها من قبله أكثر سخونة وصعوبة؟ هذا ممكن؛ إذ إن تغييرًا لفظيًّا على الأقل طرأ في سياسة بايدن مقارنة بسلفه ترامب بالرغم من وجود قوى الجذب العكسي في الكونجرس، وربما في إدارته التي قد تقف حائلًا بينه وبين رغباته بتحقيق التواصل مع أبناء العالمين العربي والإسلامي. وبايدن في تحركه لا يخفي أثر الأزمة الاقتصادية العالمية في حديثه عن التنمية والشراكة وتبادل المنفعة، وهو بذلك يريد للعلاقات الاقتصادية الأمريكية مع العالم أن تتقدم في ظل إفلاس العديد من المؤسسات الاقتصادية الأمريكية العملاقة.
وخلاصة القول إن خطاب بايدن قد يكون حدًّا فاصلًا ما بين ما سبق وما تلاه، ولكنه بالتأكيد لن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فبخطاب بايدن استطاعت واشنطن أن تخفف بعضًا من الخراب الذي نتج عن الإدارة الخرقاء لترامب لأزمات هذا الجزء من العالم، ونتمنى أن تكون العلاقات الجيدة بين جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله والرئيس الأمريكي جو بايدن أساسًا حقيقيًّا لدور أردني فاعل في حل قضايا المنطقة. كما نتمنى أن تنعكس هذه العلاقات على دعم الأردن في ظل جائحة فيروس كورونا التي أثرت بشكل خاص في اقتصاده المنهك في ظل استقباله للاجئين السوريين بداعٍ إنساني.
ولكن يبقى التفاؤل بأن قوى العقل العربي التي تدعو إلى بناء مقومات الذات وتحقيق التكافؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية هو فقط ما يمكن أن يحقق المستحيلات، ويمكن وقتها أن نقول إن العجلة قد بدأت تدور، وأن شمعة قد أُضيئت، وفي النهاية فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
وهكذا تستقيم الحكمة العربية والمنطقية بأننا نحن العرب والمسلمين بحاجة إلى رئيس أمريكي فعَال يحقق العدل ولا يميل مع الهوى، لا إلى واعظ قوَال.