بقلم يامنة بن را ضي
إذا كان الصمت شهية الخائف كما يقال؛ فإن الكلام الذي يفضح الظالم ويكشف سوءة ظلمه القذرة هو طريق الشرفاء؛ وهذا لعمري ديدن الشجعان تلك الثلة القليلة التي تحاول وبكل ما أوتيت من قوة تبديد الظلام الحالك الذي تنشره أيادي الطغاة على وهاد حياتنا..
ولأن الصحافة كما يرى الفيلسوف الروسي” تولستوي” هي بمثابة سيف الحق ومجيرة المظلومين التي تهز عروش القياصرة وتدك معالم الظالمين؛ فإن الصحافيين في غزة هم بحق سيوف الحق التي قطعت ومازالت تقطع حبل الظلم والزيف الذي يحاول الاحتلال الصهيوني البغيض أن يخنق به الحقيقة أمام العالم؛ ولا جرم أن وائل الدحدوح الذي دفع ثمناً باهضاً حياة عائلته بأكملها قد هز عرش الجبروت الصهيوني ودك صروحه الواهية وهو أمام الكاميرا حاملاً ميكروفونه ينقل قهر ومعاناة أهل عشيرته من الغزاويين من بطش ووحشية الكيان المحتل؛ الذي يتربص به ويكيد له لأنه كشف الوجه القبيح النتن له وحشره في زاوية الخزي الذي يلاحقه من شعوب المعمورة قاطبة؛ لقد استطاع هذا الصحافي الفلسطيني المناضل أن يصنع مجده بشجاعته وصموده وإصراره على مواصلة المسير في دربه الموحش مهما كان الأمر؛ مهمته الصحافية التي باتت مهمة الموت بامتياز..
ولئن كانت الحرب أولها إعلام كما يذهب إليه الكثيرون؛ فإن وقوف وائل الدحدوح بين الدمار يتوسط جثث الشهداء تحت الأنقاض ينقل بصوته لكاميرا قناة “الجزيرة” القطرية التفاصيل المؤلمة لكوارث القصف الهمجي الذي حول غزة الى مقبرة جماعية لآلاف الشهداء؛ هو مقاومة إعلامية ضد الكيان المغتصب يضع بصماتها المميزة هذا الوائل .. لقد أبلى “أبو حمزة” بلاءاً أكثر من حسن قل نظيره لدى كثير ممن ينتسبون الى مهنة المتاعب والتي حولتها أنانيتهم وضمائرهم الغائبة الى مهنة البحث عن الإمتيازات والحظوة..
كلما ازدادت وتيرة الإرهاب القذر الذي تمارسه العصابات الصهيونية ازداد صمود أهل غزة العزل الذي تعلكهم الحرب كالرحى؛ ليتوج ذلك بازدياد قوة وصلابة صحافييها؛ وعلى إيقاع الموت الذي يحاصره وزملاءه من كل جانب يقف وائل الدحدوح صلباً ثابتاً رغم تلك الآثام التي اقترفها المحتل في حقه عندما قتل أول مرة زوجته وفلذات كبده “شام” و “محمود” وحفيده الرضيع “آدم”؛ ليترصده في المرة الثانية هو شخصياً وهو يؤدي مراسلته الصحافية في خانيوس رفقة زميله ” سامر أبو دقة” ؛ هذا الأخير الذي ارتقى شهيداً في حين أصيب الدحدوح الذي ولج المستشفى هذه المرة كمصاب وليس كصحافي ينقل أوجاع أهل غزة وهم يكتوون بنار الألم على ذويهم وأحبائهم من الشهداء والجرحى …لم يتوانى هذا المراسل الصحافي الحر في خوض حربه الإعلامية ضد الطغيان الصهيوني وزبانيته من الغرب الخبثاء بكل ثقة وبسالة رغم كل ما تعرض له؛ ليفاجئه القدر بابتلاء آخر استشهاد بعض منه .. نجله الصحافي ” حمزة ” أيضاً وفي طريقه لآداء واجبه الصحافي وهو الذي كان يرى فيه عائلته التي استشهدت في مخيم النصيرات؛ غير أن تلك الضربة الأخرى الموجعة له من المؤكد حرقت فؤاده لكن لم تقصم ظهره ولم تكسر عزيمته ..ومع أني أجزم أن كل الصحافيين في غزة الذين استشهد الكثير منهم ومازال الآخرون مشاريع استشهاد في أي لحظة هم جميعاً من طينة وائل الدحدوح الذي استفز صبره على ما يبدو كل أبناء الشعب العربي والعالم؛ فهذا مواطن من صعيد مصر يرسل له رسالة في مقطع مصور يعبر فيه عن انبهاره بحجم صبره وثباته وعزيمته متساءلاً في ذات الوقت: من أي نوع من البشر أنت يا وائل الدحدوح؛ ليضيف قائلا:” لقد عجزت الصحافيين من بعدك يا أبو حمزة”..وها نحن نجد أنفسنا نقول لله درك يا أبا الشهداء..
تخطى صبرك كل المدى لكأنك أيوب العصر الذي لم يبلغ سماء المجد حتى لعق الصبر…
“لكل فرس خيالها ” كما يقول المثل العربي …وللصحافة الحرة أيقونتها وهو بلا منازع الصحافي وائل الدحدوح؛ هذا الرجل الأسطورة الذي تمكن بلا ريب من إعادة الدور الفعال والبالغ أهمية للصحافة العربية في ايصال صوت المظلومين الى العالم وكشف لا أخلاقية وعنجهية الظالمين من الاحتلال وحلفاءه الغرب وغيهم اللامحدود؛ عكس بعض الصحافيين ممن أعمى الطمع بصيرتهم؛ من جعلوا مهنتهم النبيلة مصدراً لتحقيق الشهرة ومكاسب شخصية لا أكثر…
أخيراً يقول غسان كنفاني: ” لك شيء في هذا العالم فقم” ..لقد فقد الدحدوح أهله وعياله وأخلاءه وداره وبعض دمه ومع كل ذلك ..قام هذا الصحافي المقاوم الذي سبق وان قال” هذا خيارنا مستمرون” كجبل شاهق ليواصل مهمته الصحافية المقدسة لأن له في هذا العالم ..الحقيقة التي يجب أن تكشف …ودموع الثكالى والأحلام المشرقة لما تبقى من الأطفال في غزة…وهدايا الإنتصار للشهداء..
والحرية لموطنه فلسطين سيدة الأرض..