بقلم/ المهندس خالد بدوان السماعنة
الغيب .. هذه الكلمة التي تستهوي الكثير من الناس، فطبيعتهم وفطرتهم تميل بهم لمعرفة ما خفي عنهم وما هو مقدم عليهم في قابل الأيام. وكما يقول ابن خلدون في مقدمته:” من خواص النفس البشرية التشَوُّف إلى عواقب أمورهم، ومعرفة ما سيحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر”.
كلما عانى الفرد من الخوف والقلق كان تعلق قلبه بمعرفة الغيب أكثر وأشد أملا منه في الوصول إلى حالة من الطمأنينة والأمان. وكلما ضعف العقل والفكر وسيطرت العواطف والمشاعر على الإنسان كلما كان سهلا عليه الإيمان بالأوهام والخرافات ولجأ إلى “الكهانة والكهان”.
“الكهانة” ! هذا المصطلح كان دارجا عند العرب ومن سبقهم من الأمم منذ قديم الأزمان، وطبيعة بيئة العرب القاسية والمليئة بالمخاطر دفعتهم للبحث عن الغيب والمستقبل. وكلما ازداد مال الرجل وجاهه كلما كان ميله إلى الكهان أكبر، رغبة منه في معرفة ما يتهدد ماهو فيه من غنى و جاه أو سلطان.
لذا نجد أن رمال الصحراء نقلت إلينا أسماء رنانة في عالم الكهانة ممن يدعون معرفتهم بأسرار العالم من العرب، الذين كانوا يخبرون قاصديهم بما سيأتي عليهم في مستقبل الأيام، ك”شِق” من قبيلة “عبقر”، و “سطيح” من بادية الشام، وغيرهم.
لقد كان شائعا عند العرب أن الكاهن لا يكون كاهنا حتى يكون له رئي من الشياطين ينقل له أخبار السماء، ليكون الكاهن مجرد ناقل لما يلقي إليه الشيطان من معلومات؛ لكنه يزعم أنه يعلم الغيب، أو قد يزيد فيزعم أنه نبي، كما حصل مع ابن ثقيف “مسيلمة الكذاب”، وابنة بني تميم “سجاح”.
لقد جاءت السنة النبوية ببيان آلية النقل بين الشياطين وكهنتهم وكيف تجري، فإن السماء مليئة بالملائكة، وحين ينزل الأمر من الله إلى الملائكة فيما قضى به من الحوادث الأرضية يتحدثون به فيما بينهم في السحب وما حول الأرض في غلافها، فتسترق الشياطين السمع خلسة، لتنقله الشياطين بدورها إلى الكهنة، فيستغل الكهنة هذا الخبر الحق فيضيفون عليه من كيسهم مئة كذبة أو أكثر.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: سَمِعَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ المَلَائِكَةَ تَنْزِلُ في العَنَانِ -وهو السَّحَابُ- فَتَذْكُرُ الأمْرَ قُضِيَ في السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إلى الكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ معهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ مِن عِندِ أنْفُسِهِمْ.
وهي التي تقول رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ؟ فَقالَ لهمْ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بشيءٍ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكونُ حَقًّا، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: تِلكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحق يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا في أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِن مِئَةِ كَذْبَةٍ.
لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم فبين المبهم، وفسر المجمل للإنسانية، أو كما يقولون: وضع النقاط على الحروف. ولقد فهمنا من نص الوحيين أن الغيب أنواع، فمنه الذي يختص بعلمه الله وحده، ولا يعلمه إلا هو سبحانه، وهو الغيب المطلق، الذي يغيب عن كل أحد سواه، وهو من خصائص الله وحده، ومن ادعى أنه يعلم هذا النوع من الغيب فلم يبق في رقبته دين ولا إيمان. إذ لاسبيل لهذا الغيب إلا بوحي من الله. بل من جاء مدعي هذا النوع من الغيب فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد !.
والجميل في الأمر أن عملية الاستراق والاختلاس الشيطاني على ما يدور بين الملائكة من حوار قد أنهيت منذ 1459 عاما، أي منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ تم حراسة السماء من هؤلاء المتجسسين والمسترقين بشهب تحرق كل من دنى أو تجرأ على الدنو منها. ولذا فقد عنون الحافظ ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية”: [فصل فى منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن].
وهذا من قبيل حراسة الوحي الشريف حتى لا يختلط الحق على الناس، فكان منع الاستراق من لطف الله ورحمته بهم.
وانظر ماذا حكى الله عن الجن في القرآن: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدا * وَأَنَّا لَا نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِى الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا ). وفي سورة الشعراء تأكيد على هذا المضمون فيقول تبارك وتعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ).
فالسماء لم تعد ساحة مفتوحة لمسترقي السمع والمتجسسين من الشياطين، بل باتت محروسة، ومن تجرأ أطلق عليه شهاب يحرقه.
لكن لحظة! أهناك شيء يسير جدا قد يصل أذن الكاهن قبل أن يتم حرق الجني الذي أوصل هذا الشي ؟!.
لقد بلغ الخبيثون من الشياطين مبلغا أن أعدوا سلسلة ( انتحارية) تصل مابين السحاب والأرض، حتى إذا خطف أولهم كلمة (ما) أسلمها للذي يليه (فيحرق) فالذي يليه (فيحرق) حتى تصل أذن الكاهن (ليحترق الشياطين جميعا) في عملية حق لنا أن نسميها انتحارية شيطانية. فما أشد عنادهم على الباطل. وهذا قد أشار القران له في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
فيبتلي الله الناس بمسترقي السمع هؤلاء، ولنسمهم: الشياطين المغامرين ! وليفتتن الناس بالكلمة التي خطفها وأصابها.
إذا فقد تقرر لدينا أن ثمة غيب مطلق لا يعلمه إلا الله؛ لكن ثمة غيب يمكن أن نطلق عليه “نسبي”، أي أنه قد يكون مغيبا عني وعنك؛ ولكن غيرنا قد اطلع عليه، فهو غيب بالنسبة لمن لم يطلع عليه، وهذا النوع فيه قول آخر.
فالجزار مثلا لا يعلم مافي جوف الشاة، فإذا فتح بطنها علم واطلع على ما كان مغيبا عنه. وهذا النوع من الغيب (النسبي) قد يصل إليه المرء بطريقة مشروعة، أو غير مشروعة.
فالأطباء اليوم يكشفون المغيب عنا في هذا الجسم من أورام، وحال الجنين، وغير ذلك بما آتاهم الله من العلوم وأجهزة التشخيص الدقيقة التي اخترعها. أو كمعرفة حالة الطقس عبر الأجهزة والتوقعات التي قد تختلف بأمر الله وتقديره.
لكن قد يأتي رجل سرقت منه سيارته إلى آخر يتعامل مع الشياطين فيسأله عن مكان سيارته، فيرسل شياطينه تجوب الأرض بحثا عنها، فيأتونه بخبرها، فهذا النوع من الغيب “النسبي” قد وصل إليه الواصل بطرق غير مشروعة، فالشياطين لا تقدم خدماتها بالمجان.
مع التأكيد على أن شياطينه تلك لا يمكن أن تخبره عن شيء من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وهناك نوع آخر لا علاقة له بالكهانة، وإنما هو الكذب والدجل والشعوذة، أو كما نسميها عمليات نصب واحتيال لأكل أموال الناس بالباطل والضحك على ذقونهم، فهذا لا يطلق على صاحبه كاهن، بل دجال ومحتال.
والسؤال هنا: ماتخبر به “ليلى عبد اللطيف” أو الملقبة ب”سيدة التوقعات” تحت عنوان “توقعات” ياترى يندرج تحت أي نوع مما ذكرناه سابقا؟.
قطعا وبدون أدنى شك فإن ابنة عبد اللطيف تتكلم في علم غيبي لا يعلمه إلا الله! ..
ولقد افتتن كثير من الناس بالتوقعات التي أشارت إليها ابنة عبد اللطيف في العام الماضي وفي الأعوام التي سبقته، وكيف أنها أصابت فيها بالفعل، وكان آخر التوقعات زلزال المغرب، وفيضان ليبيا، بالإضافة الى انتشار البق في فرنسا وتسببها في أزمة في البلاد !!!.
لقد اندفع البعض الى القول ان ليلى عبد اللطيف من الأشخاص الماسونيين المتواجدين حول العالم في الوقت الراهن، رغم أنها تنفي هذا الأمر وتصر على أنها عرافة فقط، بل تشكك في وجود الماسونية أصلا. وإذا صح أنها ماسونية وماتخبر به من توقعات هو ماتسربه إليها الحركة الماسونية لزعزعة معتقدات الناس، وتحريف الثوابت عند المؤمنين بالله، فسيكون شياطين الإنس هم من يزودونها ببعض ما سيقومون به. وإلا فلم يبق إلا شياطين الجن هم من يخطفون خطفة من خبر السماء فيلقون بها إليها، فتنة للناس وزحزحة لهم عن إيمانهم بالله. وحينها لا مفر من اعتبارها إحدى كهنة هذا القرن.
وحنانيك بعض الشر أعظم من بعض، وهما خياران أحلاهما مر كالحنظل.
الخلاصة!
لقد توعد الله كل من يدعي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، بل وإمعانا منه سبحانه في إغلاق هذا الباب منعنا من الاستماع لهؤلاء ولو على سبيل الاستماع (ولو دون تصديق) قطعا لمادة الشر. حتى أن الشارع الحكيم منع قبول صلاة من فعل ذلك أربعين ليلة.
فيا معشر من آمن بالله .. احذروا .. فعقيدتكم على المحك ..
اللهم هل بلغت ..اللهم فاشهد