تكلفة الفرصة البديلة المستقبلية للنزاعات عالمياً

8 نوفمبر 2023
تكلفة الفرصة البديلة المستقبلية للنزاعات عالمياً

بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
يدور في العالم اليوم، وحسب إحصاءات عالمية، ما يزيد على 50 نزاعاً مسلحاً بأشكال مختلفة، بعضها يتعلَّق بنزاعات داخلية على السلطة، وهذه تشكِّل نحو 40% من النزاعات الدائرة حول العالم، في حين يقع بعضها الآخر عبر الحدود بين الدول كنزاعات سياسية عسكرية وتشكِّل نحو 20% من إجمالي النزاعات العالمية، وما تبقّى من نزاعات عسكرية عبر الحدود وداخل الدول هي تلك التي تقع لمكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات، أو حالات العنف والقتال بين العصابات والخارجين على القانون، وغيرها من نزاعات تقوم على مفهوم البلطجة المُسلَّحة. وبالرغم من الثمن أو الكلفة الباهظة الظاهرة للنزاعات من خسائر بشرية ومادية عسكرية مباشرة بين الجهات المتنازعة، فإنَّ الكلفة الضمنية والثمن غير المنظور، بل والخسائر الكامنة لتلك النزاعات، تكاد تتجاوز أضعاف الرقم المحسوب أو المحسوس للكلفة المباشرة للنزاعات. وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ الكلفة النقدية الكلية للنزاعات المختلفة حول العالم وصلت في عام 2021 إلى نحو 14 تريليون دولار، أي ما يعادل 11% من الناتج المحلي العالمي، ويشمل ذلك الإنفاق العسكري، وتدمير الممتلكات، وتوقُّف الإنتاج، ونفقات الصحة والعلاج، وتدفُّق اللاجئين، ونفقات الاحتواء المجتمعي للاجئين. في حين قدَّرَ البنك الدولي كلفة الحروب على الدول بما يعادل 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة تدخل ذلك المعترك. وبالتطبيق على الحالات القائمة عالمياً، فقد وجدت بعض الدراسات أنَّ كلفة خسائر الحرب الأوكرانية الروسية، كمثالٍ على النزاعات عبر الحدود وبين الدول، وصلت إلى ما يربو على 350 مليار دولار عام 2022، وفي الحالة السورية، كمثالٍ على الصراعات داخل الحدود، تجاوزت الخسائر المحسوبة نحو نصف تريليون دولار. بيد أنَّ أياً من الدراسات لم تتقدَّم بدراسة علمية واقعية حول الكلف المستقبلية غير المنظورة للنزاعات، أي ما يمكن تسميته كلفة الفرصة الضائعة للنزاعات، أو ما يُسمّى في علم الاقتصاد أيضاً كلفة الفرصة البديلة، والتي من المعتقد أنها أكبر بكثير من الكلف المادية المباشرة وغير المباشرة المحسوبة مالياً في حالات الحرب أو النزاعات القائمة على التدمير وفقدان الأرواح. فمن ناحيةٍ تحتاج الدراسات أن توضِّح الحجم الحقيقي لصافي القيمة الحالية الإنتاجية للقوى البشرية التي تخسرها الدول جرّاء تلك النزاعات، فلكل عنصر بشري يتم خسارته في الحروب قيمة اقتصادية مستقبلية تمَّ إنهاؤها بفعل تلك النزاعات، وتزداد تلك القيمة كلما كان عمر الخسائر البشرية صغيراً، ذلك أنَّ الأطفال والشباب ومن هم في مقتبل العمر من المفترض أن يقدِّموا إنتاجية مستقبلية تصبح فرصة ضائعة ومساهمة مفقودة بفعل خسرانها في الحروب، ومن الواضح أنَّ جلَّ الخسائر البشرية في الحروب تكون من تلك الفئة، بالرغم من أنها لم تعمل على إشعالها ولم تكن لها علاقة بها أصلاً، بيد أنها تبقى أرواحاً منتجة خسرتها الدول، وتمَّ خسارة دورها الإنتاجي الاقتصادي والاجتماعي على المستوى العالمي، وذلك بتطبيق مفهوم المواطن العالمي Global Citizen الذي بات مطبقاً فعلياً في يومنا هذا، حيث يعمل أكثر من 15% من الطاقة البشرية عن بُعد ومن أماكن لا علاقة بمكان المستفيد من ذلك العمل والإنتاج. وعليه، فإنَّ كلَّ طاقة إنتاجية بشرية تعدُّ اليوم طاقة إنتاجية عالمية، لا يخصُّ إنتاجها من علوم وابتكارات وإنتاج ملموس دولة معينة، بل هي تتجاوز الحدود وتغدو مساهمتها عالمية حقيقية. فكثير من الطاقات البشرية تعمل من موقع وتخدم بقعاً ومواقع عالمية متعدِّدة، فالديمغرافية باتت عالمية، والجغرافية باتت حصرية في المكان فقط دون الفضاء. وينطبق المفهوم السابق للخسائر أيضاً على الخسائر الناتجة عن الفرصة الضائعة من جرّاء تدمير إنتاجية الأصول المادية والمعنوية الملموسة وغير الملموسة في مجالات البنية التحتية، والإمكانات اللوجستية، والبنية التقنية، بل والإمكانات الإبداعية والابتكارية، والقيمة المعرفية المضافة، ومنظومة كبيرة من العطاء والمساهمة، التي يصعب حسابها إلا عبر افتراضات تنوب عن الأصل، Proxies. وجميع هذه الخسائر باتت عالمية وليس وطنية أو إقليمية أو قطرية. ففي ظل الثورة الصناعية الرابعة، وما نتج عنها من انفتاح عالمي على البيانات الكبرى والمعرفة والمعلومة، وتوسُّع متوالٍ متسارع في انتقال الخبرات عبر الحدود، والإبداعات، والابتكارات، بل والإنتاجية المعرفية، بالاعتماد على سرعة فضاء الزمان، وليس عبر الانتقال المكاني، أو الجغرافي، فقد باتت نتائج خسائر الحروب والنزاعات هي خسائر عالمية، وبات قضية خسارة البشر، عقولاً، وإنتاجاً، ومعرفةً، وإبداعاً، وابتكاراً، هي مسؤولية البشرية جميعها، ومسؤولية المؤسَّسات التي وُلِدَت لتكون حاميةً وحافظةً لجودة الحياة، وأمن ومعيشة البشرية. فمنظمات حقوق الإنسان، ومحاكم العدل الدولية، ومؤسَّسات الأمم المتحدة التنموية والاجتماعية، والمالية، وجهات الأمن الدولية، كلها مسؤولة عن القيام بدورها لضمان ألا تتجنى أي جهة، سواء كانت دولة معترَف بها، أو جماعة غير معترف بها، على حقوق العالم في حماية أصوله البشرية والمادية والمعنوية. فالقيمة الصافية لخسائر الحروب المستقبلية، أكبر بكثير من خسائرها المالية الآنيّة المحسوبة بين الكلف العسكرية، والخسائر البشرية، أو لنقل الجسدية، فالخسائر الكامنة فيما يتم تدميره من رأسمال بشري، وأرض، ورأسمال معرفي، ومؤسَّسات، وبنية تحتية وفوقية إن تمَّ حسابه، فإنه سيقدِّم بين يدينا كلفاً وأعباءًا تنوء بتتحمَّل مسؤوليتها البشرية جمعاء، نتيجة ميول عسكرية منفلتة وشهية غير بشرية للانتقام وضغائن يحملها أطراف تعودوا الجموح دون أن يوقفهم أحد، كفاية لشرهم، أو استمتاعاً بعملهم لتحقيقهم مكاسب آنية، ستظهر خسائرها من الفرصة الضائعة في زمان لن يكون أيٌّ منهم في السلطة. مسؤولية ضبط وإيقاف الحروب والنزاعات مسؤولية عالمية، وليست قطرية أو إقليمية؛ لأنَّ الخسائر عالمية وكلفة الفرصة البديلة هي أن ننعم جميعاً بحياة أفضل بأمن وسلام، دون حقوق منقوصة، أو بلطجة مدجَّجة بأسلحة دمار وتدمير.