د. عادل يعقوب الشمايله
يتراوحُ العلاجُ الشعبي بين العسلِ ابتداءاً، والكي بالنارِ آخراً. القرآنُ أخبرَ بأنَّ العسلَ “فيهِ شفاءٌ للناس”. الملاحظ أنَّ الاية اوردت الشفاء بصيغة بصيغة التحفظ وليس صيغة الاطلاق حيث أن القرآن لم يقل أن العسلَ علاجٌ للناس.
هذا التدرجُ في العلاج ينطبق على اساليب علاج الصراعات الدولية التي هي في واقع الامر تتراوح بواعثها ما بين الامراض النفسية والعقلية والاطماع المادية.
على مدى التاريخ ما قبل بداية القرن التاسع عشر كانت القوى العالمية المتصارعة تعتمدُ العُنفَ في الغالب من خلالِ شَنِّ حروبَ مباغتةٍ بقوةٍ غاشمةٍ لا تتوانى عن تبني نهج الارض المحروقة.
الهدفُ دائما الفوزُ على قاعدة رابح خاسر، ولا مجال للحلول الوسط. إما الاستسلام دون شروط او التعرض للدمار من الاقوى.
تطورت اساليب حل الصراعات الدولية شأنها شأن الكثير من مناحي الحياة بفضل الثورة الصناعية والثورتين المعرفية وثورة القيم الانسانية اللتين قادتهما الفلسفةُ والنظريات السياسية وكتابات المفكرين غير التقليديين ونشوء الدول القومية حيث دخلت مفاهيم جديدة على ادوات حل الصراع مثل الدبلوماسية الناعمة والدبلوماسية الذكية وافتتاح السفارات والقنصليات في حين نُعتت الحروب بين الجيوش بالدبلوماسية الخشنة. ثم انشأت في القرن العشرين المنظمات الدولية لمنع العدوان ومعاقبة المعتدي ولتكون منصةً لعرض المظالم وحشدِ التأييد الدولي والرأي العام العالمي. هذه المفاهيم والممارسات الحديثة لم تعد تقتصرُ على منعِ حروب التوسع وأنما لمنع الحروب التجارية والتعدي على البيئة ووضع قوانين دوليةً للبحار والانهار العابرة للحدود والفضاء.
ولَعَلَّ اول معاهدهٍ مسجلةٍ في التاريخ تلك التي وقِعَتْ من الفرعون رمسيس الثاني وملك الحثيين حتوسيلي الثالث حيث اسفرت المفاوضات عن ترسيم للحدود ما بين مصر وسوريا وانهت الحروب بينهما. كما مورست المفاوضات والدبلوماسية في دول الرومان والاغريق والصينيين والخلافتين الاموية والعباسية. الا انها لم تكن القاعدة في حل النزاعات بل الاستثناء.
اكتسبت المفاوضات والدبلوماسية زخما اكبر منذ مؤتمر فينا ١٨١٤-١٨١٥، ومعاهدة فرساي بعد انقضاء الحرب الكونية الاولى واصبحت الدبلوماسية والمفاوضات اكثر استخدماً وتسبقُ مُعظَمَ النزاعات المسلحة.
يُوجهُ القرآنُ أَتباعهُ الذين يخوضون صراعا مع قوى أخرى معتدية بأن عليهم اذا تعرضوا للعدوان، أن لا يبادروا بالجنوح للسلم. بل إن الجنوح للسلم يجب أن يظل خيار الطرف الآخر أي المعتدي، بنص الآية القرآنية: “إن جنحوا للسلم” حينها “فاجنح له”. الاية تبتدئ بأَنْ الشَرطِيةِ. جنوحُ المسلمينَ للسلمِ مشروطٌ بجنوحِ المعتدي اولا وتوسلهِ الصُلحَ.
لكنْ، علينا أن نلاحظ ايضاً أنَّ نص الاية لم يترك قرار الجنوح للسلم لإرادة الحاكم المسلم ليتصرف حسب مشيئته ومصلحته وارتباطاته. الآيةُ تأمر الحاكم المسلم بالجنوح للسلم استجابة لجنوح الطرف الاخر المعتدي، والا أُعتِبرَ الحاكمُ المسلم مُعتديا مثله ايضاً. لأن الله لا يحب المعتدين أياً كان دينهم وملتهم وجنسيتهم.
لقد ارسل النبي محمد رسلاً لزعماء قريش وتفاوض مع وفد يمثلها في صلح الحديبية، وتفاوضَ مع اليهودِ وارسل رسلاً لحكام الدول المجاورة. أي أنه مارس فن الدبلوماسية والمفاوضات ضمن نطاق الدبلوماسية الناعمة.
في المقابل بادلَ عددٌ من حكام الدول المجاورة دبلوماسية النبي بمثلها. بل إن بعضهم زاد وطبق الدبلوماسية الذكية كالتعامل الحسن مع مبعوث النبي وارسال الهدايا للنبي كما فعل حاكم مصر. في حين أنَّ حكاما أخرين طبقوا الدبلوماسية الخشنة فقتلوا المبعوث واطلقوا العنان لتهديد المسلمين. لذلك كان رد النبي أن غزاهم لتأديبهم وشاهدُ ذلكَ غزوةُ مؤتة فكانت بمثابةِ آخرِ العلاج وهو الكي.
استخدمَ النبيُ ايضا اسلوب استعراض القوة في غزوة تبوك وهذا يقع تحت تعريف الدبلوماسية الذكية والتي تحتلُ مرتبةً وسطاً ما بين الدبلوماسية الناعمة والدبلوماسية الخشنة. وتشمل الدبلوماسية الذكية المزج ما بين المبعوثين والسفراء والهدايا والوسطاء والاستفزازات المحدوده والحصار وقطعِ موارد المياه عن الخصم كما فعلت تركيا مع سوريا والعراق، وايران مع العراق والتهديد الاثيوبي لحصة مصر من مياه النيل.
تتقبل الدبلوماسية الناعمة والدبلوماسية الذكية في النهاية الحلول الوسط على قاعدة رابح رابح compromise and win win strategy.
الاية القرآنية التي تأمر المسلمين بالجنوح للسلم إن جنح المعتدي له اولا، تُمَثلُ تطوراً كبيرا على إدارة الصراع بين النبي سليمان وملكة سبأ. اذ ارسل لها سليمان رسولا يدعوها للاسلام والاستسلام. فكانَ ردُها ارسالَ وفدٍ يحمل الهدايا الثمينة ورسالة مودة وصداقه لسليمان. فكان من سليمان أن رفض اعتبار ارسال الهدايا كافيا وامر باختطاف عرشها من سبأ واحضاره لقصره وعرضه عليها عندما حضرت امعاناً في استعراض القوة ودفعها للاستسلام.
هذا التطورُ يُظهرُ أن مبدأَ التدرج الى الافضلِ قاعدةٌ رصينةٌ من قواعد الاسلام ومبادئه.
التطور المطلوب الذي يفرض نفسه في هذه الايام الخالدة هو عدم تكرار اتفاقات “وقف التصدي للعدوان” التي تم خداع وتخدير وتنويم الشعب الفلسطيني بها بدءاً من عام ١٩٣٦ مرورا بالانتفاضتين الاولى والثانية. وكذلكَ تَجَنُبُ نوعِ الجنوحِ للسلام الذي اختارهُ السادات وباركه الشيخ الشعرواي مع علمِ الشيخِ أنه ليس الجنوح للسلام الذي امر به القرآن. فالعدو الصهيوني لم يجنح للسلم اثناء حرب ١٩٧٣ ولا بعد وقفها بموجب قرار مجلس الامن الدولي. ولكن السادات هو من اعلن مبادرة السلام وذهب الى كهف الضبع. ولذلك فقد عانى السادات كثيرا في مفاوضاته مع اسرائيل والتعامل مع المراوغ المتذاكي كيسنجر، مما الزمه بدفع ثمن اعلى مما يجب مقابل الانسحاب الاسرائيلي من سيناء، وأضعف موقفه التفاوضي في المسألة الفلسطينية.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) (59) وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دونهم۞ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ”. ۚ60.