الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
خلال العقد الأخير من القرن الماضي وبتوقيع اتفاقية أوسلو وبعدها اتفاقية وادي عربه، تفاءل العلم وأبناء منطقة الشرق الأوسط بحلول مرحلة جديدة من الحياة التي ستؤدي الى استقرار وازدهار المنطقة، ونتيجة للتفاؤل السائد آنذاك فقد تم تجاوز مذبحة الحرم الابراهيمي عام 1994، تبعها عملية اغتيال رابين عام 1995، الامر الذي مهد الطريق لانتخاب حكومة إسرائيلية متطرفة برئاسة عام 1996والتي تراجعت عن تنفيذ بنود الاتفاقيات والتي من المفروض ان تؤدي الى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، الامر الذي لم يحصل حتى تاريخه.
اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) في أيلول عام 2000، وكنت وقتها اعمل باحثاً في (Woods Hole Oceanographic Institution( ودائرة المساحة الجيولوجية الامريكية، والتقي بالكثير من الباحثين وأصحاب الفكر (اكن لهم الكثير من الاحترام والتقدير) ومنهم عدد كبير مطلعين على ما يدور في الشرق الأوسط، وكان الاجماع على الإشادة بدور الأردن وقيادته في حفظ التوازن والعمل للدفع بالسلام للوصول الى حالة الاستقرار،واذكر في احدى حلقات النقاش والمخصص لتدهور الأوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، استرسل أحدهم قائلاً على الشرق الأوسط ان يتخلص من عرفات وشارون في نفس الوقت للدفع بعملية السلام، وفعلاً هذا ما حصل، عرفات اصيب بمرض لم يمهله طويلاً ليغادر الحياة في تشرين ثاني 2004، وشارون يدخل في غيبوبة بعد عام تقريباً، واستمرت إسرائيل برفض الحلول السلمية، بما فيها المبادرة العربية للسلام المعلن عنها من قمة بيروت العربية 2002.
توقفت الانتفاضة في شباط 2005 تاركة خسائر بشرية كبيرة (4412 فقدوا حياتهم و48322 مصاباً من الفلسطينيين، و1069 قتيلاً و4500 مصاباً اسرائيلي)، تبعها الكثير من اعمال الاجتياح للضفة الغربية والاعتداء المتكرر على المسجد الأقصى، مروراً بعملية الرصاص المصبوب على غزة في كانون اول 2008 وحصار القطاع بالكامل والذي ذهب ضحيته 1417 فلسطينياً و4336 مصاباً.
اندلع بعدها ما يسمى بالربيع العربي، وانشغل العرب بربيعهم، ونسوا القضية الفلسطينية، وبقي الأردن وشعبه بقيادةجلالة الملك، وهو الوحيد الذي يتحدث عنها في كافة المحافل الدولية، مذكراً العالم بالمشكلة الأساسية والسبب الرئيسي لعدم استقرار المنطقة، ومحذراً من الاستمرار في التوسع ببناء المستوطنات التي قطعت اراضي الضفة الغربية وأصبحت غير مترابطة، وفي نفس الوقت يقدم كل ما يستطيع تقديمه للأشقاء في فلسطين، كيف لا والأردن، هو الأكثر تضحية بالدماء على ارض فلسطين، والاردنيين يروا ان القضية الفلسطينية قضية مصيرية مشتركة (اقتبس من خطاب الملك” ستبقى بوصلتنا فلسطين، وتاجها القدس الشريف).
بتاريخ 17/7/2014 اندلعت حرب غزة تحت مسمى الجرف الصامد، وسمي في غزة بالعصف المأكول او البنيان المرصوص، ذهب ضحيتها 1742 فلسطينياً وجرح 8710، وقتل من الإسرائيليين 70 وأصيب 720.
استمرت الاعتداءات المتكررة من المتطرفين اليهود، وبدعم من الحكومات المتطرفة والتي كانت في غالبيتها برئاسة نتينياهو خلال العقدين الماضيين، وعلى الرغم من الجهود الأردنية والتحذير المتواصل للمجتمع الدولي بضرورة التوصل للحل الشامل استناداً لقرارات مجلس الامن 242 و338 ضرورة لاستقرار المنطقة، الا ان الحكومات الإسرائيلية انقلبت على ذلك في ظل الصمت الدولي المتواصل، الى ان وصلنا الى ما حذر الأردن المجتمع الدولي منه مراراً، فكانت احداث 7/10/2023 “بطوفان الأقصى”،والتي دفعت الحكومة الاسرائيليةلإعلان حالة الحرب وإعلان عملية السيوف الحديدية، وتشكيل حكومة طوارئ، الا ان السؤال هنا، اعلان الحرب ضد من؟(المعروف دولياً الحروب تعلن بين الدول) وهل يعقل ان تعلن دولة الحرب على تنظيم، الا إذا كان هذا اعتراف إسرائيلي بان الحرب هي ضد الدولة الفلسطينية، الامر الذي يتطلب من القيادة الفلسطينية ان تستغل هذا على الساحة الدولية، هذا مع العلم بان الحكومة الإسرائيلية كانت تعاني من ازمات داخلية حادة.
لم يفاجئنا موقف الدول الكبرى، بما فيها روسيا المشغولة في حربها في أوكرانيا (والتي لها مصلحة بانشغال دول الناتو في قضية صراع اخر بعيداً عن حدودها) مما يخفف من الدعم الذي تقدمه دول حلف الناتوالى اوكرانيا لوقف روسيا من التجاوز على القانون الدولي، وتوجيه الدعم بالكامل لإسرائيل، متناسيين تجاوز الأخيرة على كل القوانين والقرارات الدولية.
نحن نفهم بان أمريكا لن تتخلى عن مصالحها في الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل، الا ان عليها ان تأخذ بعين الاعتبار مصالح حلفائها الاخرين، وان تكون الأكثر استماعاً لصوت الحكمة والعقل في المنطقة، الذي يقوده الملك عبدالله الثاني، بان الوضع الراهن لا يمكن استمراره في المنطقة، ومن الضرورة القصوى اتحاذ إجراءات فورية لوقف التصعيد والنزيف البشري (حيث بلغ عدد الضحايا من الفلسطينيين ما يتجاوز 1500 وجرح 6200 ومن الإسرائيليين حوالي 1300 واصابة 3300، حتى تاريخ اعداد هذا المقال مساء الخميس 12/10، وهذا الرقم مرشح للارتفاع لأرقام كبيرةاذا ما استمر الصراع لمدة زمنية طويلة او توسع) وتزويد اهل غزة بالماء والغذاء والدواء ومصادر الطاقة، ورفع الحصار عنهم والذي لم تعرف البشرية المتحضرة مثيل له.
ان استمرار الصراع الحالي سيؤدي حتماً الى تدهور الوضع أكثر وقد يخرج عن السيطرة وتمتد اعمال العنف ومن المرجحانخراط دول أخرى فيه، مما سيمهد الطريق لحرب شامله ستكون لها نتائج كارثية من حيث عدد الضحايا وازدياد التهجير التي تسعى لها إسرائيل، وتدمير البنى التحتية وخاصة الصحية والتعليمية منها (كنا وزملائي من الأكاديميين من الدول الأوروبية وامريكا خلال العقود الماضية نجمع دائماً بان توفر بيئة تعليمية وصحية جيدة ستنتج بالضرورة مواطنين مثقفين قادرين على التأثير في المجتمع والنهوض به للأفضل).
اننا امام مفترق طرق، حيث ان 7/10/2023 غير من قواعد الصراع ورسم مفهوم جديد وأسقط صفقات كثيرةورشح المنطقة لإعادة التشكيل، كما سيؤدي الى استقطاباتوتجاذبات دولية، والتباعد بين الكثير من التفاهمات بين الشعوب العالمية، الا اننا ما زلنا نأمل ان ينتصر صوت العقل الداعي لحقن دماء الأبرياء وفرض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة على الحكومات الإسرائيلية المتطرفة لنرى دولة فلسطينية بجناحيها الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية، وحرية الوصول الى الأماكن الدينية فيها وتحت الوصاية التاريخية للهاشميين عليها (كحل للمشكلة من جذورها)، وان تتحول الجهود الدولية في المنطقة من دعم الة التدمير الى البناء والتركيز على التعليم والصحة والمشاريع التي تنتج فرص العمل لتمكين دول المنطقة من تامين متطلبات الحياة لا بناءها لينعموا كبقية شعوب العالم بالأمن والسلام.