بقلم: الدكتور صلاح الحمايده
مائة عام مرت على تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، مائة عام من التحدّي والبناء والصعود المستمر إلى الأعلى، مائة عام أنتجت قيادة شامخة ومسؤولين صادقين وأبناء ذاهبين إلى مستقبل مشرق.
ما الذي يجعل دولة لا تشبه غيرها، وما الذي يجعل مائة عام تغدو وكأنها قرون، ولماذا تبدو اليوم هذه الدولة الأردنية جديرة بالاحترام والتقدير، عربياً وعالميا؟ يأتي الجواب، أولا، من مزايا مؤسسيها، ومن صفات الذين تولوّا أمرها منذ عام 1921 إلى اليوم.
أنتسب مؤسسها الأول الأمير عبد الله إلى أبيه الشريف حسين بن علي، المنتمي إلى أشراف مكة، الذي أشرف على الثورة العربية الكبرى عام 1916. قاد الشريف حسين ثورة عربية ضد السيطرة العثمانية، متطلعا إلى الحرية وتحرير الإرادة العربية، وإلى إنسان يأخذ بيده زمام مستقبله، وإلى عرب متحدين يعيدون للعروبة أمجادها الأولى. ومع أن المطامع الأجنبية، التي عبرّت عنها اتفاقية سايكس- بيكو، صادرت أحلام الشريف النبيلة، فإن ابنه الأمير عبد الله لم يتخلّ عنها وحملها في قلبه وعقله وعزمه، وهو الهاشمي الأصيل الفخور بعائلته الهاشمية.
أشرف الأمير عبد الله عام 1921 على تأسيس “الإمارة الأردنية الهاشمية” في ظروف قليلة الراحة، لم تمنعه عن الحفاظ على آمال ورثها عن أبيه. سار مع حلمه العربي، آزاء دولة عربية واسعة قوية، تكون الأردن مركزاً لها، فعمل بجرأة وشجاعة على وحدة العرب، ولم يدخرّ جهداً في الدفاع عن أرض فلسطين، المحاصرة بسياسة انجليزية غير عادلة، فقدم الدعم والمعونة لأبنائها وبادر، لاحقاً، إلى تأسيس الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي التي لولا جهوده الصادقة لما رأت النور. وحيث أخذت الإمارة شكل المملكة عام ١٩٤٦، دعا إلى بناء “الجيش العربي الأردني”، موحداً بين الوطنية الأردنية والانتماء العربي الأصيل، ورحل شهيد العروبة وفلسطين والقيم الهاشمية التي لا تعرف المساومة ، وجاء بعدها المغفور له الملك طلال الذي لم يتح له أن يحكم الأ عام واحد من عمر الدولة الأردنية، وحمل الشاب الحسين بن طلال مآثر جده وسار على هدى مسيرته، فكان سياسياً نبيهاً وخبيراً عسكريا، وملكاً حليماً أدرك سريعا أن صورة الدول من صور حاكميها ، تجاوز صعوبات وتحديات كان جده الملك المؤسس قد واجهها وانتصر معاً عليها، وأن حكمة الأبناء من حكمة آبائهم، فقاد الحكم بجدارة وهو لم يبلغ العشرين.
وإذا كان سؤال الملك عبد الله الأول: كيف تُوجد دولة عربية موّحدة في زمن يحاصر العرب طموحاتهم، فإن سؤال جلالة الملك حسين كان: كيف تجعل من بلد محدود الإمكانيات فاعلاً سياسياً اساسيآ في الشرق الأوسط، كان زمن الملك الشاب مختلفاً عن زمن جدّه، وكان عليه أن يعثر على إجابات صحيحة لسؤال الصعب. وحقق ما أراد وحظي باحترام عربي وعالمي، وحكم بلده بحنكة ونمطية إلى أن وافاه الأجل رحمه الله، وخلف وراءه قائداً أردنياً هاشمياً، ورث التحدّي وجابهه بخبرته النيرّة وخبرات القادة الهاشميين الذين سبقوه.
جمع مليكنا عبد الله بن الحسين بين الخبرة والمعرفة والثقافة والمسؤولية وحداثة الرؤيا وأصالة الرؤية، وذلك في سياق تاريخي جديد. حفظ استقرار بلده وأمنه في فترة عاصفة من التاريخ العربي، بدت فيها الأردن واحة عمان وازدهارها، فتقاطر إليها عراقيون سقطت عليهم أكثر من نكبة ، وسوريون عاشوا فواجع الحرب الأهلية، وليبيون عبث الحرب بمصائرهم ، ويمنيون حاصرهم الخطر، وفلسطينيون رأوا في الأردن ملاذاً لهم… اختار هؤلاء جميعاً الأردن ملجأ لهم، لأن الأيام علمتهم الفرق بين المجتمع الأردني وغيره من المجتمعات العربية، استندوا إلى كرم أردني وإلى أردنيين يكرمون الضيف، لأن المجتمع الأردني حريص على متابعة قيم اخذها من حكامه الهاشميين.
ما الذي جعل الأردن مؤملاً وملاذاً لعرب متعددي الجنسيات؟ يصدر الجواب عن التقدم العلمي والمؤسساتي الذي حققه الأردن في العقود الثلاثة الأخيرة: الطبّ حيث المريض العربي يلتمس الشفاء في مشافٍ حديثة الجاهزية وأطباء مختصون لا تنقصهم الأخلاق والكفاءة، والخدمات المصرفية في بنوك حسنة الإدارة، والتطور والتكنولوجي الذي عرفته مرافق أردنية كثيرة، والإنجازات العلمية والاقتصادية المتعددة، إضافة إلى دولة يحكمها القانون والمؤسسات.
ارتبط كل ما انجزه الأردن الحديث بالسياسات الحكيمة التي اقترحها واشرف عليها جلالة الملك عبد الله: سياساً لتقدم العلوم والعمران، وسياسة اقتصادية – تربوية ستثمر إمكانيات المتعلم الأردني المبدع، وسياسات عمرانية تجذب الباحثين إلى الراحة واهتمام بالآثار، وسياسات علمية- تقنية تطور الزراعة والصناعة والتجارة. وإذا كان الملك الراحل حسين قد تحسب بسؤال: كيف تجعل من “الأردن الصغير” مرجعاً سياسياً كبيراً في الشرق الأوسط، له دوره في الحرب والسلم، فقد رأت بصيرة الملك عبد الله إلى سؤال جديد: كيف تجعل موردن غنياً بإمكانياته العلمية، وتؤمن للأردن اقتصاداً مزدهراً بأدوات أردنية، تقيه العوز والحاجة إلى الآخرين؟ بل تجعله أيضاً يساعد الآخرين؟
لم يكن سؤال جلالة الملك ممكناً لولا سياسة اجتماعية شاملة لا تميز بين شماله وجنوبه وعشائره ومعتقداته، لا تفرق بين المرأة والرجل ولا بين الغني والفقير، وتحرّض المجتمع كله على التمسك بهوية أردنية والدفاع عنها. لأن هوية الملك، الهاشمي الأردني، تنبع من حاجات مجتمعه، ومن أفقه الواسع، وهو الملك المثقف الواسع الثقافة العارف بالحضارة الكونية في أبعادها المختلفة. أو لأن غايته القريبة والبعيدة، هو الذي يعيش مع شعبه، تأمين الحقوق الإنسانية للأردنيين جميعاً، بعيدآ عن حكام يسوسون شعوباً لا يعترفون بحقوقها.
في سياسة جلالة الملك ما يقول: إن صورة الملك الحقيقي من صورة شعبه، وأن مناقب شعبه من مناقب المسؤولين عنه. لا غرابة، والحال هذه، أن تكون جلالة الملكة رانيا العبد الله مدافعاً عن حقوق المرأة في المجتمع، وعن حقوق المجتمع الذي يحترم امرأة مسؤولة منتجة، ما جعل الدور السياسي للمرأة في المجتمع الأردني، يتجاوز دورها في بلدان كثيرة قريبة وبعيدة.
ولعل ولي العهد الأمير حسين بن عبد الله يمثل طموحات الشباب الأردني ومستقبله، معتمداً على ما حققه من علم ومعرفه وخبرة وأداء وطني راقي الشكل والمضمون. فهو مهتم بالمشاريع الشبابية، يقدم لها الدعم والمشورة ويسندها بالخطط والمعلومات التي تدفعها إلى النجاح. وهو في هذا قدوة للشباب الأردني المتعلم والطموح ومعاً، وهو المرآة التي إذا نظر إليها الشباب الأردني المسؤول رأي أحلامه ومستقبله، وعلى ما يفيد الأردن ويضعه دائماً في صدارة الشعوب المتقدمة، عربية كانت أو غير عربية.
تقول كتب التاريخ: صور الأمراء من صورة الملك الذي تعهد رعايتهم. وقد توارث الهاشميون قيماً منيرة.
ويقال أيضاً: ليست قيمة الدول من أسماء من توالى على حكمها، بل من قيمة ما أنجزته. وما انجزه الأردن في مائة عام غدا معلماً حضارياً وثقافياً وعروبياً معترفا به، ويقال ثالثة: إن كرامة البلدان من دفاعها عن مقدساتها. كان الهاشميون، ولا يزالون، مدافعين عن الحق العربي في العدالة والاستقلال، وعن حق الفلسطينيين في نيل حقوقهم، ودافعوا بصدق، لا تراجع عنه، عن القدس والمقدسات فيها، فهم حماة القدس ومقدساتها. من أيام الشريف الحسين بن علي، إلى حكم جلالة الملك عبد الله بن الحسين، بصوته الواضح الثابت الجليل، الذي يصرح بالحق ولا يعرف المداورة والمساءلة.
اجتهد النظام الأردني، ملكاً وولي عهده وحكومة باحترام حقوق الإنسان ومقدساته، ما أعطى الأردن مكاناً جديراً به، بين الدول المتحضرة التي اعترفت، منذ زمن، أن للأردن قيادة حكيمة تؤمن بالاعتراف المتبادل بين الحاكم والمحكوم، وبالحوار العقلاني بين الدول المختلفة، وتكافح من أجل كون إنساني تعمه الرفاهية والسلام.
بعد مائة عام من تأسيسه صار الأردن نموذجاً للحكم، تطمح إليه شعوب المنطقة جميعاً.