بقلم : سهل الزواهره
لا تَكسِر قلَمك ولا تسكب دَواة حِبرك الأثير في مصارف النسيان المُتخمة طاعةً وزحفا، لا تكسره وإن أذَّن داعي البُكم والخناعة، ومَلأ وقع صوته المُتسلل ربوعَ الحيِّ المُترنح نَهبا، وعضَّت أضراسُ الخوفِ بحناجرَ الصدقِ وأدمَت عروقَ الهَوى والأملَ فلتاتُ النَزقِ ودروعُ التحصين وشِللُ الليل الثقيل الرابض المُترع مَكرا.
لا تَكسِر قلَمك ولا تُمِل حُلُمَك ولا تَفقأ عيونَ ربيعَ غَدِك البصير ، وأعلم أن الحَبلَ القصير لن يَقوى على تقييد فِكرك السمين ولو لدغت ثَعابين الجِباية جَيبك المرقوع وأثقَلت الأحمال زِندك الموجوع، واحتالت اللصوص على لهفتك اللاهثة المُرابطة في ثغر الزمان وثرى المكان، ستظل مُهرتك الجامحة تقتحم الصَباح الى العُلا تُعانق الشمسَ وتُغطي بصهيلها المُزلزل على صَخبِ الضمائر النابحة وتترك خلفها ألف هجين وألف حاجز في مضمار لا تنتهي رَحاه.
لا تَكسِر قلَمك ولا تحمِل كفَنك مُهرولا بيافوخكَ مُتَوسِّلًا الكفاف، لا تكسرهُ ولو أضحت القُيود النَيَّة قدرًا يُحيط بِأبْهَرِك التائه بين لحم يَذوي وعظم يهِش ودم مهدور وعقل يدور وقلب اعتاد الخفقان كطاحونةً هواءٍ تضُخ تيَّار الحياة والإيواء لكل طريدٍ شرَّد الهمُ والبارودُ بَلدته المَسروقة تآمرّا وقهرا.
لا تَكسِر قلَمك فما أنت ذرٌّ ولا مُرهِبكَ نَعامة، واشمخ بصدر مجدك ولا تغْضُض طرفكَ فما أنت من نُميرٍ ولا ستنال بالتغافلِ السلامة، وحرِّك دُميتك المَركونة دَهرًا في زوايا ديوانك المُقفر فالوطن ليس أرقامًا تُبوَرِصها أيدي الرِهان وأمزجة الوِلدان ولا فاصلةً يحملُها هواةُ النحو حيث شاءوا، ولا بلاهة ترتجل شِعرًا مزَّقَ جويهلٌ بُحورَه وأذبلَ قَوافيه ونحرَ صدرَه وأهوى بعجزهِ.
لا تَكسِر قلَمك ولا تدع عصبَ الحرفِ الغاضب يرتحلُ وحيدًا في عتمةِ اليأسِ حاملًا ملامِحهُ في حَقيبته الصغيرة المُعدَّة على عَجلٍ بَحثًا عن مَثوىً في مَقابرِ الكلماتِ الصَريعةِ مَدحًا و تلميعًا لأوثانٍ أكل الصدأ رأسها وأذاب قاعها فغدت بصورتها الخاوية رمزًا وقداسةً لكُلِّ مَوائد اللؤم والتلون.
لا تَكسِر قلَمك و لا تُذعن لطلاسم اللوح الغريب، فَطارىءُ الوادي ليس كَوليد زهرهِ القديم ولا كسمادِ عِزِّه المُعتَّق ولا يحملُ همَّهُ إلا من تلذذ بِعناقِ لهيبِ حُمَّتهِ الهاربةِ من أجساد صبيته الذائبة يتلقاها بِمسامِ جَسدهِ المُنهك شفقة على عيِال وخوفًا من زوال قد أطلت أشباحهُ وقامرت أشياخه وأُنيم طبيبُه.
لا تَكسِر قَلمك ولا تُلحِّدهُ غِمدهُ المُصطنع، ولا تُثقِل على جناحه بحصى المديح والغزل الصريح مُعلَّقاتٍ تنصبها على جدارٍِ الزورِ نِفاقيات تتمايل كُليماتها ضعفًا وطعنًا ويُلحِّنُها كِتعان الغفلة وضَجيج المقاعد المُتقلبة في الجهات الست، ويُنشدها تَسابق الأباهيم موافقةٌ وانصياعًا وهز الأدمغة المُدَولَرة عَطايا.
لا تَكسِر قلَمك ولا تُرِق فنجان قَهوتك السمراء فداءً لنِصفِ حياةٍ نِصفها حسابٌ وعَد والآخر عدوٌّ وكد، تستر بها عيوبًا وتُلاحق فيها ثقوبا تُمطر على رأسِك الأشعث غُبار الدُّنيا ضامًا إلى صدرِك المُجهَد فِراخًا تصيح ومُستقبلا ذبيح يهتز خصرهُ النحيل بين قهقات دُخان ثمين ووَشوشات حرام ورائحة تُداعب بِعبيرها النَتن أحلام رهطٍ اعتلاهم الهامان وغنَّت بِخلودهم الغِربان و حالفهم الأمس العائد.
لا تَكسِر قلَمك و لا تسلِّم صكوك الأسر و بيع الدار و أدرك أن حدودُ كرامتك ليست إلا مدادَ فكر يتحبَّر وقبضة حبرٍ تتفكر تأسر ببريقها أفق السماء الممدود وتُعتق القرطاسَ المَرصود وتُسطِّره نثرًا يَفيض نهرًا وتمحو بألقهِ الخَصيب عِجاف السنين ويَسكُن على وقعِ عَجيجهِ طُموحُ النماريد وأمواجهم الطينية وترسو نُوحيَتُكَ على جودي الأصل الناصِع والحقِّ الساطِع والفجر الذي لا يموت.