إبراهيم عبدالمجيد القيسي يكتب: مجرد استراحة محارب

17 أغسطس 2023
إبراهيم عبدالمجيد القيسي يكتب: مجرد استراحة محارب

وطنا اليوم: لو قررت أن أحاسب الزمن، وما احتوى، وأن أحصي حجم التعب والخيبات والفرح والنجاح، لكانت النتيجة الحرفية سعادة، فهي صورة طبق الأصل، مستنسخة، عن رحلة أخرى، مررت بها قبل أن يكون عندي عائلة وأطفال، أعني حين كنت وأمي وأبي وأشقائي وشقيقاتي، نحن العائلة، ومضينا في تلك الرحلة بلذتها وقسوتها، وتجاوزناها بمختلف مذاقاتها.. لتصبح لنا عائلاتنا الصغيرة، ومضينا معا من جديد، نطوي الأيام، بطولها وقصرها وحرّ صيفها وبرد شتائها.. فجرها وصبحها وعصرها وغروبها وجوف لياليها، خبزها وجوعها، وعسرها ويسرها، ونكرانها وجدرانها، وشحّها وجودها.. وملايين الخطوات فوق أرضها الدوّارة الغدّارة الهدّارة بالأصوات والوجوه والعيون والأشجار والصمت والضجيج.

خضنا معا، سلامها، وصددنا كل جبهات حروبها، بصبر جميل، وصمود في وجه الريح..

كنا نتأهب معاً، لعام مدرسي جديد، نجوب السوق، نبحث عن حقائب رخيصة متينة، ودفاتر ومساطر، وأقلام رصاص، وبعض الطوابع الزاهية لدفاتر البنات، وتجليد للكتب والدفاتر، وصرنا مع هذه الجولات من التسوق الموسمي، وبتكرار الأعوام، صرنا خبراء في الأنواع والأسعار، وخبراء في الاحتفاظ بتاريخ الخرابيش والرسوم، حتى أننا كنا خبراء بأسواق “البوات”.. أعني الأحذية الرياضية الرخيصة في اسواق “البالة” للأولاد، والبضاعة الصينية الزاهية للبنات، نعرف أسعارها ونجيد السير بها أطول مسافة ممكنة، قبل أن تنتهي صلاحية استخدامها.. لا بد أن كل المقاتلين في حروب البقاء يدركون متى وكيف تنتهي صلاحية حذاء رخيص.

وكانوا الأولاد والبنات “السبعة”، يحبون المدارس، ويلتزمون بكل تعليماتها، ويحوزون كل الرضا فيها ومنها، يفوزون بجوائزها عن الأخلاق وعن النظافة والترتيب، والتفوق بالامتحانات.. كانوا يشكلون في الصباح طابورا عفويا، فعند خروجهم إلى المدرسة، يقتادون بعضهم بخبرة في قطع الشوارع، واتقاء خطر وشرور الطرقات، ويعودون للمنزل ظهرا، ينتظروا قدوم السابع أو السابعة، فيكتمل العدد لتناول ما تيسر من غداء، ثم ينطلقون بسرعة لحل الواجبات، ثم مراجعة الدروس التي تلقوها ذلك اليوم، وبعدها يركن كل واحد منهم الى زاوية أو فوق أو أسفل “كنباية”، يحضرون دروس اليوم التالي، ومع الغروب تسري في البيت بهجة طلاب أنهوا كل متطلبات يومهم الدراسي، وحان وقت اللهو، هذا يريد متابعة مسلسل كرتوني، وذاك معه كرة نصف منفوخة، بعد أن زفرت بلا شهيق، هواءها في اليوم الأول من امتلاكها، وتلك تعلمت من رفيقاتها لعبة جديدة، تحاول ان تلعبها مع شقيقاتها، ثمّ يتحلّقون ثانية حول مائدة عشاء، تتضامن مكوناته مع فوضى الغروب، وتبدأ العيون بمداعبة النعاس، ولا يبلغ أحدهم وهو مستيقظ فعلا، ساعة النوم (الإجباري) وهي التاسعة ليالي الشتاء والعاشرة في غير لياليه.. يا ألله كم كان يحزنني وقت نومهم، يطبق الصمت، فألوذ لإكمال التفكير في شأن الأمس واليوم..

 

كل المدارس تنام وتصحو في اليوم التالي، والعصافير كذلك، ورغم مكوثها في الحدائق نفسها، إلا أنك تشعر بأنها تهاجر كل ليلة، وقت النوم، أو تكون الهجرة أكثر وحشة حين تنتهي العطلة الصيفية، ومن فرط شوقهم للمدارس، ولأصدقائهم ومعلماتهم ومعلميهم، ينامون قبل العاشرة منذ الليلة الأولى، بعد ان يجهّزوا عتادهم وذخيرتهم وسائر “عدة الحرب والكفاح”، وتكون تلك أثقل ليلة على نفسي، حين ينامون مبكرين، وتخيم أجواء المدارس منذ الساعة الأولى على بداية الفصل الدراسي..

وفي عمق واطراف هذه الأيام والليالي، وبعد عين الله، تحرسهم عين أمهم، وتسير أوقاتها كلها، بل عمرها كما يسير عقرب الثواني في ساعة الحائط، تعليمات وأعمال وتدريس وتجهيز كل الطلبات، ومكابدتي في إحضار طلباتهم المدرسية، تلك تريد دفترا وذاك يلزمه “بوت آخر”، ويجب شطب تلك اللعبة عن جهاز الكمبيوتر، ويجب ان تذهب لمديرة المدرسة، فهناك معلمة تقوم أثناء حصتها، بنقل بنتنا من مقعدها قرب اللوح وتُجلس أخرى مكانها .. وحين تفقد إحداهن ولو نصف علامة في تقييم ما او امتحان او علامة نشاط ما، يتأهب الجميع، يريدون معرفة سبب ضياع تلك العلامة.. ويلزمني مراجعة المدرسة للوقوف على السبب.

 

في اليوم الأول لذهاب أصغرهم أحمد، إلى المدرسة، كتبت مقالة عنوانها (قولوا لعين الشمس ما تحماشي)، التقطها كثيرون من قراء زاويتي، وبعض الأصدقاء، أذكر منهم (د عادل الطويسي .. طيب الذكر والصيت والقلب)، ناقشني فيها مطولا، وتدفق فيه حنين يشبه حنيني.

 

أنا اليوم أكتب “استراحة محارب” بعد أن عاد أحمد من رحلته المدرسية، وحصل على شهادة ثانوية عامة بمعدل 85 بالفرع العلمي.. أهنؤه ب 7 آلاف مبروك، وأهنىء بهذه المناسبة كل الطلبة الذين نجحوا، متمنيا لهم التوفيق بالدراسة الجامعية، والحصول على فرصة عمل بعدها.

وأنا الليلة، يغزوني طابور من حزن وسعادة، كشعور الصائم خلال الساعة الأخيرة من آخر أيام شهر رمضان، وشعور العسكري حين يبلغونه صدور أمر تقاعده، فهذا موعد انتهاء معركتي مع حياة المدارس، التي انتصرت بحمد الله وتوفيقه في جولاتها السبع حتى الآن:

اثنتان، أصبحتا طالبتا دكتوراة بالجامعة الأردنية.

الكبير يحمل شهادة صيدلة.

الثالثة، طبيبة أسنان تكمل “الماجستير” الإختصاص العالي بمستشفى الجامعة الأردنية.

الرابعة، طالبة طب أسنان بالجامعة الأردنية في السنة الخامسة (*ما زالت “أسماء” حتى الآن، صاحبة الرقم القياسي التاريخي في معدلات الثانوية العامة للفرع العلمي، (98.9)، وذلك على صعيد الفرسان من أبناء وبنات الأشقاء وأبناء العمومة من “القرايب القيسية”، وهذه ملاحظة تحفيزية، لكسره من قبل أي ابن او بنت “منا وفينا”).

الثاني، سيكمل السنة الثانية بتخصص القانون.

وأحمد “الأصغر”، الذي كان يخشى الفراشة، والذي لم يحظ بكل الاهتمام.. سيكون الطالب السادس على مقاعد الدراسة الجامعية، وتلك معركة أخرى..

أتمنى لنفسي؛ ولأمهم، ولهم فيها النصر والصبر والتوفيق.

 

الحمد لله الذي أنعم علينا بصمود الأنقياء وصبر الشرفاء.