وطنا اليوم – تحدث الباحث والأكاديمي الأردني البارز الدكتور وليد الحي بمستجدات بعض القضايا الدولية والإقليمية مع نخبة مثقفين وأكاديميين على إفطار خاصة لتبادل تهاني العيد استضافه صباح السبت صالون الدكتور أمين محمود في العاصمة عمان.
وكتب الدكتور وليد عبدالحي:
عند تفكيك المنظومة المعرفية والثقافية، لا بد من التمييز بين المعلومات من ناحية ومنهجية الربط بين المتغيرات في هذه المنظومة من ناحية ثانية ومنظومة القيم التي تستتر وراءها أحكام التقييم للمتغيرات من ناحية ثالثة.
فعند الحكم على مجتمع ما أو حزب ما أو نظام سياسي ما أو منتج سلعي ما أو أنوثة امرأة ما أو قوة مصارع ما، يُسقط الفرد الحالة النموذجية في منظومته المعرفية على تلك الواقعة، ويحاكمها طبقا لدرجة اتساقها مع مجموعة معاييره، ويصدر حكمه طبقا لدرجة اقتراب الحالة من النموذج الأمثل في منظومته القيمية والمنهجية.
لكن المشكلة في التقييم هي في الأوزان التي يضعها الفرد لمؤشرات التقييم، فالبعض يجعل من الحرية معيارا أهم من المساواة، والبعض الآخر يرى العدالة القانونية أهم من الحرية، وبعض آخر يرى المنفعة أهم من الأخلاق(البراغماتية)، وآخر ينظر للجمال بمعناه الفلسفي دون اكتراث بالبعد الحسي،بينما يرى آخر الأمر خلافا لذلك.. وهكذا تتباين الأحكام نظرا لتباين الوزن النوعي للمعايير من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر، ولا يبدو أن تنوع وتباين الثقافات والحضارات يسمح بتخيل نموذج مطلق ومتفق عليه ويعطي ذات النتائج إلا في حالة الطغيان المعرفي.
أوزار النظرة المطلقة هي في اعتقادها بإمكانية إسقاط نموذج قياس ما للحكم المعياري على كل الظواهر في كل الظروف وفي كل الأحيان،فلو قدمت نموذجا فيه كل المغانم ما عدا المعيار الذي لدى صاحب النظرة المطلقة، فإنه يرفض نموذجك لأنه لا يتضمن معاييره الخاصة، والعكس صحيح.
فعندما تقول أن المجتمع البريطاني مجتمع متطور، وتقدم مئة مؤشر على تطوره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ستجد من يقول لك بأنهم سمحوا «بزواج المثليين»، ويعتبر هذا المعيار كافيا للحكم الكلي على المجتمع ويداري كل مؤشراتك.. وعندما تقول بالمقابل أن المجتمع العربي فيه فكرة التضامن أو التكافل الأسري أو الاجتماعي، يقول لك آخر ولكنه مجتمع متعصب.. وهكذا.. كأن كل منهما ينتظر المجتمع المثالي الذي يتسق تماما مع نموذجه الخاص.. وهو أمر لم يحدث في تاريخ البشرية كلها.
وعندما تقول مثلا أن إنتاج الموبايل يمثل عملا أخلاقيا (لأنه يجعل كل أم وكل أب يتواصل مع ابنه او ابنته البعيدة عنه، أو يربطك بكل العالم لتعرف ما يجري، وتستخدمه لالتقاط صور المناظر الجميلة.. أو… الخ.. فيقول لك قائل ولكنه يخلق مشكلات أخرى مثل كذا وكذا.. وهنا عدنا للمطلق،أي النظر إلى الظواهر بأنها خير مطلق وكلي أو شر مطلق وكلي.. مع أن الظواهر لا تخضع إلا لأحكام نسبية وطبقا للمعايير الخاصة، فلا تسقط أحكامك على سلوك الآخرين.. وإذا فعلت يكون لهم الحق أن يطبقوا معاييرهم على سلوكك.. وهنا ينفتح المجال لتطور الحوار الحضاري بخاصة إذا كان دون استعلاء أحيانا أو دون تحايلات سيكولوجية لمداراة الإحساس بالنقص.. أو الإحساس بالتفوق.. فكلاهما حالة مرضية تعبر عن خلل في المنظومة المعرفية.. فالحضارات تتجاذب في بعض المعايير والمنطلقات وتتنافر في بعضها الآخر.. وفكرة التنوع موجودة في المنظومة المعرفية العلمانية من ناحية، وتقرها المنظومة الدينية من ناحية ثانية (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)، و(من آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم).. واللسان ليس أداة تواصل فقط بل هو بنية معرفية متكاملة في منظور الفلاسفة الإسلاميين والعلمانيين.. فلا بد من قبول التنوع، ولا بد من تهذيب نماذجنا المطلقة.. وقد أكون مخطئا في رأيي هذا لأني حولت النسبي إلى نموذج مطلق.. وهنا تبدأ مشكلتي.