كتبه المهندس خالد بدوان السماعنة
باديء ذي بدء فإنني لا أتجاهل دور الإعلام المصور بأشكاله المختلفة في نقل الإنجاز إلى عموم الناس، بل قد تكون الصورة أحياناً هي الدليل المادي الوحيد على وجود هذا الإنجاز، وبقائه في الذاكرة.
أنا أعلم يقينا أن للصورة سلطانها على وعي المشاهد واللاوعي عنده..
هذه حقيقة لا يمكن أن نشكك فيها، لكن أن تصبح دليلا على إنجاز غير واقعي أصلا (تمثيلية) فهذه استطالة مابعدها استطالة.
بمعنى آخر:مجرد صورة أراد منها ناشرها تضليل وعي المواطن عن حقيقة مايجري على أرض الواقع.
فكل من دخل حقل التسويق الإعلامي أو حام حول دائرته يعلم علم اليقين أن الصورة ليست محايدة!ولا هي موضوعية!ومهما حاولت التبرأ من التحيز تجدها غارقة فيه حتى شحمة أذنيها.
وكيف لاتكون كذلك وهي بمثابة النافذة على واقع لا يعرف المشاهد عنه شيئا!بل كيف وهي تفتح باب الخيال أمام المشاهد ليكمل بدوره القصة وكامل المشهد.ولا يحكم هذا الخيال إلا حصيلة تجارب وخبرات وجملة إسقاطات.
إن هذا الإتساع المخيف في عملية الإنجاز المصور من خلال الإعلام المرئي ووسائل التواصل الاجتماعي خلق من اللاشيء إنجازاً لا علاقة له بالواقع المجرد.
مشهد ذلك الفقير الذي يستلم صحناً من الأرز أو رغيفاً من الخبز يطوف العالم ليخلق واقعاً مزيفاً عند المشاهد حاصله:أن هذا الفقير لم يعد فقيراً أو على الأقل لم يعد جائعاً!! فكيف إذا تبين لنا فيما بعد أن المشهد برمته كان مبرمجاً ومفتعلاً!!
الغواية قد تستدرج صانعي محتوى الإعلام المصور إلى افتعال الإنجاز!والذي سيكون أقل تكلفة وعناء من تحمل الإنجاز الفعلي!!
بل قد يأتيك الإعلام المصور فينقل لك صور مساعدات من الأدوية بالأطنان في بؤر الصراع !تعكس حجم عناية هذه الشركات بالمسؤولية الاجتماعية!.في حين أن الواقع قد لا يعدو كونه مجرد حيلة ماكرة للتخلص من أدوية شارفت مدة صلاحيتها على الانتهاء، وإرادة التخلص من كلف التخزين والإتلاف والضرائب. فتتخلّص بهذه الحيلة الماكرة من بعض أعباء التخزين بتحويلها إلى بؤر البؤس التي لن تنتفع منها.
فانظر كيف قامت الصورة بقلب الحقيقة الشيطانية الى خيال ملائكي لا وجود له.
هنا تظهر خطورة الصورة بنوعيها الثابتة والمتحركة في تحريف الواقع وإظهاره بصورة لا وجود لها.
أعطيات تصور لتريح الضمير والوجدان الإنساني بأن الفقراء والجوعى في موقع الصورة قد تم سد جوعهم في حين أن العين الفاحصة تعلم أنها أعطيات لاتسمن ولاتغني من جوع.
وهنا تلعب الصورة لعبتها بين الفراغ الحاصل بين حقيقة مايجري، وضعف وعي المشاهد بهذه الحقيقة وملابساتها، فيتم صناعة فقاعة الإنجاز في هذه الفراغ.
والمزعج في الأمر أن فقاعة الصابون تلك لم تعد حكرا على الدول والمؤسسات والمنظمات بل باتت في يد صانعي المحتوى الفردي، فبات من السهل والممكن لكل أحد أن يمارس موهبته في صناعة الفقاعة التي تعكس نقيض الواقع تماما.
بل ترى في مشهد لايقبله العقل من لم يتجاوز الحلم وقد حاز على ملايين المتابعين والمعجبين على حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.
انغماس كامل في صناعة فقاعة الإنجاز المصور!
جهد كامل في خلق واقع مصور يقوم على التمثيل والتفاعل الكاذب بما ينافي تماما ما يعيشه في الحقيقة والواقع.
وهنا يصبح لزاما أمام هذا السيل من التحريف والتبديل للحقيقة والواقع أن تبرز العين الثاقبة البصيرة التي تدقق وتحقق في كل ما يعرض أمامها، لأنها تعلم أنها إذا رأت أنياب الليث بارزة .. فذاك لايعني أن الليث يبتسم .. وإن لمعان الأشياء لايعني بالضرورة أن مصدر هذا اللمعان هو الذهب.
والمحزن أن الإنجاز الفعلي قد يتم حرف الكاميرا عن وجوده بقصد أن يبقى طي الكتمان، وإرادة الطي والكبت تلك مصدرها النكاية في صاحب الإنجاز نفسه، أو الترويج لضرورة العامل مع الإنجاز المصور وفتح الباب أمام سطوة أصحاب الكاميرات ليبنوا جاههم وسلطانهم عبر التأسيس لأهمية وجودهم، وأن مالم يبثوه فهو ليس موجوداً!! وأن غيابك عن الصورة دليل على عدم وجودك! وأنك نكرة ! (هكذا يريدون ويقنعون).
وتخيل ماقد يتفرع عن هذا التأصيل من دوافع لدى الأفراد يندى لها الجبين قاعدتها: من ليس في الصورة ليس له إنجاز.
ختاما نقول .. نحن وبلا أدنى شك لا نعيب الإنجاز المصور بإطلاق .. بل قد يستدعي الواقع شيئا من ذلك .. لكن لا بد من تسليط الضوء على محاولات قلب الواقع السيء إلى مثالي!وفضح التصنع المذموم ..دون المبالغة المسيئة .. وخرق فقاعة الصابون تلك المغطاة بثوب من الإنجاز البالي ..لقطع الطريق على من ليس أهلا ولا كفؤا للإشارة إليه أو إليهم بالبنان.
الخلاصة: فقاعة الإنجاز مالم تخرق فقد تكون سبيلا لأن يوسد الأمر إلى غير أهله.
حري بنا أن نحافظ على الوعي المجتمعي تجاه الاستبداد للإنجاز المفتعل المصور، والمشهد المرئي المدبلج من خلال النقد الواعي، والتمحيص لكل المشاهد التي تعرض هنا وهناك.وقد يجابه هذا النقد بمعارضة الجماهير التي وقعت أسيرة هذا التلوث البصري فغرهم الألوان الزاهية لفقاعة الإنجاز تلك، وأضحت أسيرة الهيمنة الإعلامية المصورة التي غطت على العقول في القلوب.
وفجأة وبلا سابق إنذار تنفجر الفقاعة لتستيقظ الجماهير على الحقيقة المؤلمة، وأن ماكانوا يرونه ماهو إلا مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.