الدكتور محمود المساد – خبير تربوي
الحلقة رقم ( 2 )
تعرضنا في الجزء الأول من سلسلة هذه المقالات (1-5 ) إلى الواقع المجتمعي الذي يحتضن النظام التربوي ، وأنه واقع لا يسر، تتفشى به الكثير من المشكلات التي قادت إلى تراجعه وتفككه، ووضحنا كيف أصبح هذا الوضع نتاج تراجع النظام التعليمي في مستواه وأدائه وتقليديته، وعرضنا كمؤشرات على هذا الوضع معيارين هما:-
المعيارالأول – قائمة الأسوأ في اللامساواه في توزيع الدخل القومي بين سكان المجتمع:
المعيار الثاني – عمليات النظام والتشريعات الناظمة لها والمسيّرة لأعمالها، حيث نجد حضورا متوسطا للمساواة وغيابا للعدالة والديمقراطية وتكافؤ الفرص.
وأكدنا على أن مشكلة الفقر ومعاناة أكثر من نصف سكان المجتمع منها فترات طويلة خلقت مشكلة الحنق والغبن والاحساس بغياب العدل والتي جميعها معا أو مفرّدة تخلق بيئة معادية للتعلم. ودخلنا أيضا بجدلية من تسبب بمن، هل التعليم سبب وجود هذه المشكلات والاختراقات بتغييبه مكارم الأخلاق والشخصيات السوية ، أم الهشاشة الاقتصادية وسوء الأخلاق الاقتصادية وغياب سيادة القانون وغياب المساءلة هي من تسبب بفقر التعلم وتراجعه وضعف الثقة بتأثيره.
وعودا إلى موضوع مقالنا الحالي رقم ( 2 ) نشير بداية إلى أن واقع التعليم في الأردن قبل جائحة كورونا وفي أثنائها وفيما بعدها لم يختلف كثيرا في المؤشرات العامة الدالة على مستواه، فقد تبين لنا أننا لم نكن قبلها بخير، ولم نكن خلالها بوضع يستوعبها ويتكيف معها – بل كانت مرحلة كورونا كاشفة لواقع التعليم المتراجعة – ،ولم نستطع حتي الآن ( 2023 ) أن نضع البرامج والمشاريع الفاعلة لتحسين الوضع القائم ، وإن تم وضعها من أي جهة أخرى فإننا لا نحسن إدارتها ومتابعتها وتحقيق أهدافها بالدرجة التي خطط لها بها.
المعيار الثالث : فقر التعلم والفاقد التعليمي بالنسبة المئوية وعدد السنوات الدراسية ( فجوة التعلم ).
لقد كانت الصدمة التي تعرض لها النظام التعليمي في الأردن من أشد الصدمات التي أصابته وأصابت عملياته في التاريخ، وهذا ما أكدته التقارير الدولية التي كشفت أن معدل فقر التعلم قد ازداد بمقدار الثلث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث يعجز فيها 70% من الأطفال في سن 10 سنوات عن فهم نص مكتوب بسيط، هذا ما خلص إليه تقرير جديد نشره البنك الدولي،واليونسكو،واليونيسيف،ووزارة الخارجية،والكومنولث،والتنمية البريطانية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومؤسسة بيل وميليندا غيتس. وكانت هذه النسبة 59% قبل كورونا في مختلف بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، أي أن هذه النسبة من الأطفال لا يمكنها في سن العاشرة قراءة نص مناسب لأعماها وفهمه”، كما وضّح نفس التقرير أن “هذه النسبة ترتفع إلى 63% في المتوسط في بلدان المنطقة المصنفة منخفضة ومتوسطة الدخل، ومن بينها الأردن التي جاءت نسبة فقر التعلم بين أطفالها بعمر العشر سنوات 52%، وتبين أنها كانت كذلك قبل الجائحة واستمرت بنفس النسبة بعدها .
وحقيقة فإن أزمة التعلم هذه ستستمر في التفاقم بسبب التراكم المضطرد في نسبة الفقر من جهة ، والتراجع في مهارات المعلمين، وتدني مستوى رضاهم واتجاهاتهم نحوعملهم، وسوء اختيار القيادات بعد تحييد معايير الكفاءة ونضج الخبرة التربوية، إضافة إلى بنية برامج الاصلاح وضعف جديتها وكيفيات متابعتها من جهة أخرى .
إن التقليب بنسب فقر التعلم ومضامينها على وجوه مختلفة، وتبين مخاطرها على المتعلمين ومستقبلهم وفرص نجاحهم بحياتهم الدراسية، وأيضا حياتهم العملية، يكشف حجم الكارثة عليهم وعلى مستوى فعّالية خطط التنمية على مستوى الدولة. فبحسب قاعدة بيانات البنك الدولي فقد بلغ الفاقد التعليمي ما معدله بالسنوات الدراسية ( 7,7 ) عاما مقارنة بدول العالم التي جميعها تعرضت لنفس الجائحة ونفس الظروف، مع الفارق بقدرة أنظمة التعليم على استيعاب المشكلات وسرعة وضع الحلول. وهذا يعني أن الطالب الذي أنهى (12) عاما على مقاعد الدراسة في الأردن تعلم منها ما يعادل (7,7) عاما فقط ( أنظر الجدول رقم 2 )، أي أن طلابنا خريجي النظام التعليمي الأردني الذين يقضون إثني عشر عاما على مقاعد الدراسة هم فقط بمستوى صف ثامن أساسي.
وبالتدقيق بنفس الجدول رقم (2)، وبالذات قائمة الدول المختارة لغايات المقارنة نجد أن معدل سنوات الدراسة في المانيا (11) سنة مقابل جلوسهم على مقاعد الدراسة ( 12 ) عاما، وأن فنلندا ( 11,7 )، وأمريكا ( 10,6 )، وبريطانيا( 11،5 ). وهذا يؤكد أن جائحة كوفيد لم تؤثر على جميع الأنظمة بنفس الدرجة فهذه الدول المتقدمة لم تغلق مدارسها بنفس المدد الزمنية، فعلى سبيل المثال ومن نفس الجدول ( رقم2 ) يتبين أن أسابيع الدراسة في كل من ألمانيا وبريطانيا وفنلندا وأمريكا بلغت على التتالي (0،6،16،14) أسبوعا. ومع هذا لجأت هذه الأنظمة المتقدمة إلى الاغلاق الكلي في بعض الأسابيع أحيانا والأغلاق الجزئي في بعض الأيام مع تنفيذهم لبرامج التعلم عن بعد الحقيقية المختلفة تماما عن ما مارسته أنظمتنا التعليمية في التعليم عن بعد الذي عاد بنا إلى أيام التسعينيات والتلفزيون التربوي وبطرائق متخلفة تخلو من التفاعل والجدية .
وفي هذا الصدد، أي موضوع التعليم والتعلم عن بعد، كان لأنظمتنا التعليمية فضل تشويه صورة هذا المفهوم في أذهان أفراد مجتمعاتها ،والفضل يعزى للفهم المنحرف لهذا المفهوم لدى القيادات التي وجهت بتعالي له اعلاميا وواقعيا تحت أسم ( التعليم عن بعد )، في حين كان المفروض له أن يكون ( التعلم عن بعد ) . فقد انطلق الفهم من واقع التكنولوجيا المتاحة والأسهل في السوق،وخدمة القطاع الخاص الذي يملك من الدروس المسجلة بنوعية رديئة من أجل بيعها للطلبة كبديل أرخص ثمنا للدروس الخصوصية. مع أن التلفزيون التربوي في الأردن كان ينتج لخدمة التعليم لأغلب الصفوف وأغلب المباحث الدراسية ما هو أفضل وأجود وقابل للتفاعل من خلال إتاحة نصف وقت الحصة الدراسية لإدارة الحوار حول مضمون الفيديو بين المعلم والطلبة . لكن ربما كان للمفاجئة والتفرد في الفهم الدور الأكبر باتخاذ القرار الخاطئ الذي ورّث مشكلات نحتاج زمنا لمحو آثارها .
إن الأمر لا يقف عند هذا الحد ففقر التعلم له الأثر الأكبر على فهم الطلبة للمباحث الأخرى، إنه يصبح السبب الرئيس الذي يؤدي إلى عدم القدرة على القراءة بفهم للمباحث الدراسية الأخرى طيلة سنوات الدراسة كافة ، خاصة وأنهم في سن العاشرة من العمر( صف رابع أساسي ) الذي به البناء الذي لايعوض بسهولة فيما بعد، هذا فضلا عن أن قصورهم يعوق تقدم بلدانهم في مجال تكوين رأس مالها البشري، الذي من شأنه أن يدعم ويقوي نمو الدولة وازدهارها . وفي هذا الشأن يقال عادة، ” تحسين تعليم اللغة العربية وتعلمها من شأنه أن يعزز مجمل نواتج التعلم” ، وهذا هو الشأن لأي لغة أم في دولة من الدول ..
والغريب الذي ينبغي الوقوف عنده مقابلة وزيرة التربية والتعليم الأردني، حيث طرح عليه السؤال الهام الكبير ” ( 2021 ) ، كيف تفسرأن نسبة فقر التعلم لدى الأطفال في الأردن هي ذات النسبة التي أعلن عنها البنك الدولي قبل عامين؛ أي قبل انتشار جائحة كورونا؟
حيث أجاب ” إن الوزارة حققت نتائج متقدمة في تحسين القراءة الأساسية للطلبة ،على الرغم من أنه لا يزال هناك نسبة منهم لا بأس بها لا يفهمون ما يقرأون. وأضاف أن “جائحة كورونا أثرت على تحصيل الطلبة في جميع الصفوف والمراحل، والدراسات أكدت أنه يمكن تعويض الفاقد التعليمي خلال وقت قصير”.
وأضاف إن الوزارة تعمل على إجراء تحليل أولي للنظم والسياسات التي وقفت وراء هذه المشكلة الكبيرة، وستعمل على توفير أنشطة تدعم بها القراءة المنزلية، كما ستعمل بقوة على إعادة استقطاب المعلمين من ذوي الكفاءة في التدريس، وستعمل على إعدادهم وتدريبهم، وعلى فتح مراكز تعليم الكبار ومحو الأمية”، وتابع “رغم التحاق الأطفال بالمدارس إلا أن ك نسبة كبيرة منهم لم تكتسب المهارات الأساسية”.
وهنا وتأسيسا على كلام الوزير يطرح السؤال نفسه، كيف يستطيع الطالب الأردني خريج هذه الفترة التي سادها هذا الفقر الذي هو الوحيد الذي ليس له به سبب أن يساير الطلبة الآخرين من أنظمة تعليم أخرى أفضل حالا ؟.
أعرف أن الدعوة إلى وقفة تأمل لن تجد من يسمع ، كما أعرف أن المرحلة كلها عندنا وعند غيرنا من دول اكتفت بدراسة النخبة لا غير في المدارس الخاصة تصنيف ( أول ) ومدارس الجاليات الأجنبية أو المدارس القائمة على تدريس البرامج الأجنبية التي كثرت أسمائها وأصحابها هي المعنية ومحط الاهتمام والرعاية من الدولة مقابل اهمال التعليم العام الحكومي الذي أصبح ثلثه مباني مستأجرة وثلثه أو يزيد مدارس فترتين، وفي معظم صفوفة أعداد مكتظة لا تسمح أعدادها في التدرس وليس معها وبهاأي مجال للتعلم .
وهنا نعيد السؤال إلى معالي الوزير ( 2023 ) ، هل يرى معاليك أن التعليم العام الحكومي بوضعه الحالي يسمح لنسبة معقولة لتعلم للطلبة ؟، وهنا معاليك لا أقصد عمليات التعليم التي يفيض بها المعلمون سيولا باتجاه الطلبة الذين حضرت على المقاعد أجسادهم وسرحت برعاية الله عقولهم، بل أقصد التعلم بفعل الطلبة وجهودهم وتحت عناوين الاهتمام والمتعة والشغف ؟، وإذا هذا التعلم الذي نتوقعه ترفا بعيد المنال فلماذا نضيع الوقت ونهدر الجهد ونخسر المال ونقترض ديونا نرهن بها مستقبل الوطن ؟.
ولمزيد من التوضيح والمقارنات بين أنظمة تعليم أخرى في العالم نعرض للجدول الآتي :-
جدول رقم 2