رحى ابن سلول … لمن يقرأ

22 مايو 2023
رحى ابن سلول … لمن يقرأ

بقلم : سهل الزواهره

وطنٌ حَبسوه مُوثَقًا في نعشٍ حيًا مُنهنها ، و حمَّلوهُ نيًا على أكتافِ حَرائرهِ الثَكالى كَرها ، ليزُفوه بِنواحٍ صامتٍ إلى لحدٍ ضيقٍ بَقروا أعماقَهُ و جنباتهِ بأقلام مَشحوذة و ذممٍ موقوذة ، زوَّرت معاجِمَه العتيقة و تلاعبت بتراجِمهِ النَسيقة و قامرتْ بِهويتهِ السحيقة، و سَفكت على كفنهِ البالي أنهارَ دموعٍ من مآقٍ صفراء مُضْيَّقة ، دُموعٌ تتدافعُ كمياهِ سدٍّ تتفلت في قيظ الظمأ وتغلي بِشَرهٍ تَصنُّعًا وشماتةً على وُطينٍ نَحروه مِن وريدٍ الى وريد بِفسادِ السَرائرِ و نِفاقِ الضمائرِ و تمهيد المَنابر و تجريف السواتر و تغليب الصِغار .

عن وَطنٍ قتلتهُ رجالُ الصُدف الهابطة و جَواري الطمع المتسللة و أحالوهُ بالتضامن سُوقًا كاسدًا مُعسِرا لا يبيضُ إلاَّ في قلبِ سِلالِهم المَنسوجة من عُروقِ فِِتيانٍ لم ينلهُم مِنهُ إلاَّ باعًا مِن مَثوى أخيرٍ لن يَسلم بعد حينٍ من بيعٍ آخر تكونُ فيه العِظامُ و المَفاصل جُزءًا من أساسِ إيوانِه الألفَليلي القائم بُنيانًا شاحبًا يَترعُ ترفًا و تذهيبا وحَكايا، و يقفُ مُكفهِرًا على بابِهِ المُوصَد ألفُ حاجبٍٍ يَمنع و ألفُ جابٍٍ لا يشبع ليُحاسِب الأحفاد الغَيارى على نفسٍ تنفَّسهُ الأجدادُ يومًا غَضبًا على رديء حالٍ طَم و سوء مآل عَم، و يُدخِلون من فوقِ أسوارِهِ على مِيراثه و أطيانِِه علانيةً كل ما هبَّ و دبَّ و شاخَ و شبَّ ليعبثوا بِحسبِهِ المَتين و يطعنوا بِنسبهِ الأمين ، فيختلطُ الأصلُ و يَصدأُ النصلُ و يغدو الصهيل المُجلجِل أنينًا مُختنِقًا يخبو ، و لا يَعودُ للشيحِ من عَبيرٍ و لا أثر ..

و يحتشدُ الخَلقُ سِراعًا للتَّأبينِ يتقدَمُهم طَوابير خمسة : أوَّلها جَوقة الأوصياء أصحاب العهدِ الغامِض و الوعدِ الأول و خامسها أهل الإذاعةِ و الإشاعةِ يَطوَّفونَ حَولَ الصرحِ و يَتزاحمون بالأعناقِ و الأكُف المفتوحة لاتخاذ أماكنهم قَريبًا من مَساحاتِ التفضُّلِ و فُتات المَكارِم طَمعًا في كِسرة ساقطة تشد العود العفن وتشحن الجسد المُكتنِز دهنًا حرامًا تَخلَّق و تمرمغ في حظائر النفاق و التقلب.

و يُطِلَ ابن سلول مُختالًا بِحُلتهِ البيضاء يعتلي الكبرَ و يعتليه ، و يضرب بأزدريه مُزبدًا و مُرعدًا ناطقًا بِعويصِ الكلامِ تبطرًا و تشطرًا و يُطلق وعود عرقوب بتقليد يسأمهُ الناس و يتركُهم بين هياطٍ و مياطٍ و كأن الناطقَ يُوحى إليهِ و السامع ليس أكثر من دابةٍ تكلمها الناس، و لا يقطع هذا المشهد المَقتول تكريرا إلا وُقوف الدُمى و تَصفيقها الحار المُمتد برؤوسٍ مُهتزة ترحيبًا ونشوةً بالعبقريةِ الفذّة التي كانت و لا زالت تعتلي المنبر المخطوف ….

وطنٌ تعيَّرت أركانه كل صباح على وقيعةٍ جديدةٍ تُدبَّر بليلٍ مُستنسَخ تشتعلُ بين جنوبٍ مَسحوق و شمالٍ مسروق أو شرق نائم بوجه غرب حالم، أو صحراءٍ مسلوبة مع مدينةٍ مَركوبة ، وقائع تُسَلُّ بها سيوفُ التناحر و التفاخر و تصطك و تَلمع ليسعد بها ابن سلول و فريقه و يرتفع على سريرهِ يتلألأ بَريقه ، يأمرُ فيُطاع و يُنادي فيُسمع : اجعلوها بسوسًا اليوم و غدا داحسا و بعاثًا بعدها ، و تُنتَقص اللوحة من أطرافها و تتساقط منها المَلامح و الألوان فلا يبقى منها إلا بقايا رَحى تَدورُ على حَبِنا البريء فتطحنُ قمحَ بيادِرنا المَصلوبة فيتطايرُ غُبارًا ليختلطَ بترابٍٍ لم يَعُدْ لأهلهِ منهُ إلا ذِكرى مَغلولة أو صدى من كرامة تحتضر …

هويةُ الأوطان ليست شهادةً مَمهورة بتواقيعٍ أعجمية اجتمعت خِلسةً ذات شُرفةٍ للتقسيم و الترسيم ، و لا هي أمرًا واقِعًا يُقرِره فرخٌ مُهاجر أو طبقًا من زادٍ يتَكرَّم به آمر أو اختزالات مؤرخ يُسقط الجُذور بِثمن بخس و يُثبت بالقطعة عَجين أمس ، الهوية لحمٌ اختلط بعظمٍ سَرى به دمٌ توسَّدَ الصوَّان و تَلحَّفَ الرِمال و استنشق الزمانَ و الصورة ، و تشرَّبَت التاريخَ خرائطُهُ و حَفظت ملامحَ بنيه ، و تمايلت عِزةً على وقعِ قهقهات صِبيته أشجارُ زيتهِ المُقدَّس ….