زيدان كفافي
عرف الإنسان الخالق بالفطرة وحاول التقرب إليه بوسائل متعددة منذ الخليقة. ونعتقد أن تفكّر الإنسان بنفسه وبما حاوله والمظاهر الطبيعية التي عايشها إضافة لعدم معرفته بمصيره بعد الموت جعله يقف حائراً بما هو فاعل حيال هذه المسائل مجتمعة. كذلك وجد نفسه على الدوام ، أو في حالات كثيرة ، أنه ضعيف وبحاجة إلى قوة تحميه فكان لا بد إلاّ أن يتقرب إليها لينال رضاها. ففي العهود الحياتية الأولى ، أي عندما كان الإنسان متنقلاً وجامعاً للقوت قبل ملايين السنين تهددته أخطار كثيرة ، خاصة من الحيوانات المفترسة وحتى يحمي نفسه منها رسمها على جدران الكهوف، ربماً تزلفاً لها وإبعاد لشرها عنه. وعندما استقر الإنسان قبل حوالي عشرة آلاف عام ، وربما أكثر، في مكان واحد ، وبنى قرية له، واعتمد الزراعة كواحدة من المظاهر الإقتصادية وسيلة للعيش، وجد أن المنتج يعتمد على مظاهر الطبيعة من مطر، ورعد، وبرق، فخصص لكل مظهر من هذه المظاهر الطبيعية إلهاً حاول التقرب إليه ، والتواصل معه من خلال بناء التماثيل ، والمزارات والمباني العقائدية ، وربما أماكن للحج. وكانت هذه الآلهة ذكرية وأنثوية، خاصة أنه وجد أن المرأة هي الأصل في استمرارية الوجود. لكن المشكلة في فترات ما قبل التدوين (أي قبل معرفة الكتابة) أننا نفتقد للمعلومات المكتوبة، ونعتمد على التفسيرات الأثرية لعدد من المباني واللقى التي يصفها المنقبون بأن لها علاقة بالتعبد والمعبود.
اختلف الحال في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، أي بعد أن عرف الناس في بلاد الرافدين ووادي النيل الكتابة حيث عرفنا أسماء الآلهة ومعابدها وأماكن الحج فيها. فظاهرة الحج، باعتقادنا أنها متصلة منذ تفكر الإنسان بوجود إله وحتى للحاضر. والمعلومات الواردة في هذه المقالة تعتمد على المظاهر العمرانية التي كشف النقاب عنها في الحفريات الأثرية واعتقد المنقبون أن لها صفة دينية في فترات ما قبل التاريخ ، وعلى الكتابات والنقوش القديمة، وأخيراً على المصادر والمراجع التاريخية مثل كتاب “الأصنام” وكتاب “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” لجواد علي، وبحث نشر قبل عامين للدكتور محمد المرقطن حول نتائج الحج إلى معبد أوام/محرم بلقيس في اليمن وعنوانه:
Maraqten, Mohammad 2021; The Pilgrimage to the Awam-Temple/Maḥram Bilqīs, Ma’rib, Yemen. Pp. 430-463 in Georg Hatke and Ronald Ruzicka (eds.), South Arabian Long-Distance Trade in Antiquity “Out of Arabia”. Cambridge:Cambridge Scholar Publishing.
ويمكننا تعريف الحج على أنه القيام بزيارة الأماكن المقدسة في أوقات معينة من العام بهدف التقرب إلى الإله/الآلهة صاحب المكانة المقدسة عند زائريه. ووردت كلمة “حج” في معظم إن لم يكن جميع اللغات السامية، وفي الكتب الدينية السماوية.
ونبدأ الكلام من عصور ما قبل التدوين، ونضرب مثالاً من مبنى مستدير الشكل عثر عليه في موقع عين غزال / عمّان/ الأردن ويعود تاريخ المبنى بتاريخه لحوالي تسعة آلاف عام من الحاضر. ومن المعلوم أن سكان الموقع نفسه وقبل حوالي عشرة آلاف عام بنوا تماثيل بشرية ذكرية وأنثوية يعتقد أنها تمثل معبودات، وتختلف هذه عن غيرها بأنها بنيت بناء من الجص ولم تنحت من الحجارة أو أية مادة أخرى .
كشفت الحفريات الأثرية في موقع عين غزال/ عمّان الأردن عن عدد من المباني التي يعتقد بأنها كانت مزارات، أي أن لها صفة عقائدية. ومنها مبنين مستديري الشكل ويبلغ فطر الواحد منها حوالي ثلاثة أمتار، أحدهما تم استخدامه لمدة طويلة بدلالة إعادة قصارة مصطبته ثماني مرات، وفي وسطها حفرة عمقها حوالي 40سم، كما هو قطرها، ووجد في مناصفها حجر، ولها أربع فتحات في جدرانها ، كل أثنتين متقابلتين (الشكل 2). وقد حار المنقبون في وظيفتهما، لكن تم الاتفاق على أن لهما صفة عقائدية. وبما أنهما مستديري الشكل وقطرهما قليل، واحتلت الفتحة في وسط مصطبته مساحة كبيرة ، فهل يمكن لنا التكهن أنهما كانا محجان لطبيعتهما الدائرية وأن الناس كانوا يطوفون إما حولهما أو في داخلهما؟ هذا مجرد رأي قابل للنقاش، ويحتما الصح والخطأ، ويبقى مجرد إرهاص يفتقد لإثبات علمي.
وننتقل الآن للحديث حول الحج في اليمن القديم، أي قبل الإسلام، من خلال الدراسة التي نشرها محمد المرقطن. تتميز دراسة المرقطن عن غيرها أنها تعتمد على مظهر أثري، هو بناء المعبد، إضافة لدراسة النقوش المكتشفة فيه.
يذكر المرقطن بأنه اعتمد في دراسته حول الحج إلى معبد أوام/محرم بلقيس في مدينة مأرب عاصمة مملكة سبأعلى دراسة النقوش المكتشفة حديثاً في المعبد، وبرأيه أن هذا المبنى البيضاوي الشكل وله مجموعة من المداخل والمخارج (البوابات) لعب نفس الدور الذي لعبته الكعبة المشرّفة في مكة المكرمة بالحجاز . بني المعبد تكريساً لعبادة الإله “المقه” مع نشأة مملكة سبأ خلال بداية الألف الأولى قبل الميلاد واستمر حتى القرن الرابع الميلادي. ويرى أن القبائل اليمنية كانت تأتي للحج إلى مأرب لأن طابعها ديني ويتعبدون عند آلهتها، وأن معبد أوام هو الوجهة الرئيسية للحجاج. وكان الحجاج يتبعون مناسك معينة ويمارسون طقوس دينية محددة عند الحج ذكرتها الكتابات العربية الجنوبية المؤرخة من بداية الألف الأول قبل الميلاد وحتى بزوغ الاسلام. وأورد المرقطن مجموعة من الأفعال والأسماء الواردة في النصوص العربية الجنوبية ولها مدلولات ومعاني تدل على الحج، وهي: ح ض ر (ḤḌR) ، و ف ر (WFR)، ح ج ج (ḤGG)، س¹ ب ع (S¹B’)، ق س ¹ د (QS¹D)، م ‘ د (M’D) (Maraqten 2021: 433-435).
مرت شعوب جنوبي الجزيرة العربية، كباقي مناطق شبه الجزيرة العربية، بمرحلتين دينيتين، الأولى هي عبادة مجموعة من الآلهة، والثانية التوحيدية. وارتبطت أسماء الآلهة في جنوبي الجزيرة العربية بأسماء النجوم ورد ذكرها في الكتابات العربية الجنوبية، مثل عبادة الإله “ود” في معين، و”المقه” في سبأ. وقد قام الناس بالحج إلى المعبد التي بنيت وكرّست لهذه الآلهة، كل في منطقته، إما بشكل فردي أو جماعي، ويشارك فيه الذكور والإناث لكن أهمها كان الحج إلى معبد المقه/أوام في مأرب عاصمة سبأ. وقد ذكرت مجموعة من الكتابات وصفاً دقيقاً لعملية الحج على امتداد حكم مملكة سبأ على اليمن، خاصة تلك الألواح الحجرية المنقوشة بالخط العربي الجنوبي (المسند) والتي عثر عليها في البهو المعمد في معبد أوام/ المقه.
وكانت عملية الحج والسفر إلى معبد أوام/المقه وتأمين قوافل الحجاج وتزويدهم بما يلزمهم من أكل وشرب تتم عن إمّا عن طريق مؤسسات محلية أسست لهذا الغرض، أو عن طريق كهنة المعبد. ومن مناسك الحج التي ذكرتها الكتابات العربية الجنوبية، الطهارة والنظافة، والمواكب، الشعور بالابتهاج والسرور، والصلاة، وذبح وتقديم الأضاحي. بناء على ما ورد أعلاه، يمكننا القول أن الحج في اليمن القديم كانت تحكمه مؤسسات تتبع إما للدولة أو للمعبد، وأنه كان على الحاج أن يلتزم بشعائر ومناسك الحج ومن أهمها الطهارة وتقديم الأضاحي. لكن كيف كان الحال في الحج إلى الكعبة في مكة في الحجاز غربي شبه الجزيرة العربية، والتي وضع أقام قواعدها سيدنا إبراهيم وإبنه اسماعيل، هذا ما نقدمه بشكل موجز أدناه.
اعتقد سكان الجزيرة العربية أن للآلهة بيوتاً تسكن إليها ، أطلق عليها اسم “بيوت الله”، فشدّ الناس الرحال إليها للتبرك والتقرب من ساكني هذه البيوت. وبطبيعة الحال، يكون للحج مناسك وشعائر دينية منها الأدعية والتوسل للآلهة بقبول حجهم وقبول طلباتهم. وسمي الشهر الذي يتم فيه الحج، حتى قبل الإسلام، باسم “ذي الحجة”، وكتب بالكتابات المسندية (العربية الجنوبية) باسم “ذ حجنن” وهو من الأشهر الحرم. وكانت العرب لا تحج إلى مكة وحدها، فقد أورد الإخباريون وبعضاً من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي حجت إليها العرب، ومنها “بيت اللات” في الطائف، و”بيت العزى” على مقربة من عرفات، وبيت مناة وبيت نجران (جواد علي، ج6: 351). وعُدّت أيام الحج أنها تدخل الفرح والسرور على أنفس الحجاج والآلهة، واقترنت هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات. ويبدو أن مناسك الحج لم تكن واحدة عند جميع القبائل العربية، بل أن بعض القبائل لم تؤمن بالحج وأن شهر ذي الحجة شهر حرام.
وكان الحج عند العرب قبل الإسلام يبدأ بالتهليل عند أصنامهم، والتلبية إليها، فإذا انتهوا من ذلك جاؤوا إلى مكة. وأورد جواد علي (ج6: 375- 380) أنه كان لكل قبيلة تلبية خاصة بها، كما ويذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن قبيلة نزار كانت تقول إذا ما أهلت :
“لبيك اللهمَّ! لبيك!
لبيك! لا شريك لك !* إلاّ شريك هو لك
تملكه وما ملك!”
وعند وصول وفود الحجيج إلى البيت الحرام في مكة كانوا يطوفون حول الكعبة، إذ أن الطواف كان ركن من أركان الحج. وكان العرب قبل الإسلام يعدّون الطواف من أهم طرق التعبد والتقرب للآلهة، وليس له وقت محدد، ولا يختص بمعبد معين، بل يقومون به كلما دخلوا معبداً فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، وطافوا حول الأنصاب. وكانوا يطوفون سبعة أشواط حول الكعبة والأضرحة والذبائح التي تقدم للآلهة. وكان الطائفون بالبيت إما عراة وعرفوا باسم “الحلة” ، أو بثيابهم وعرفوا باسم “الحمس”، وأضاف بعض الإخباريين صنفاً ثالثاً أسموه “الطلس” وهم بين “الحلة” و”الحمس” وكانوا لا يتعرون لكنهم يفعلون في إحرامهم ما يفعله “الحلة” وهم في الغالب من سائر أهل اليمن . ويعتقد أن سبب خلع “الحلة” لثيابهم هو التخلص من ذنوبهم التي عملوها وهم مرتدينها، وأنهم لا يتعبدون لله في ثياب أذنبوا فيها.
وكان من مناسك الحج عند قريش الطواف بالصفا والمروة، وعليهما صنمان: أساف بالصفا ونائلة بالمروة، وطوافهما سبعة أشواط. وكان أهل مكة يتبركون بلمس الحجر الأسود ومن ثم يسعون بين الصفا والمروة. وكان من مناسك الحج أيضاً الوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة بعرفة، ومن هناك تكون الإفاضة إلى “المزدلفة”، وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة يفيضون من المزدلفة إلى “منى” لرمي الجمرات ونحر الأضاحي. ومواضع الجمرات في فترات قبل الإسلام متعددة، ويطاف حولها، ومنها مواضع أصنام ، وأماكن مقدسة، وقبور أجداد. ولا يحلُّ للحجاج حلق شعورهم أو تقصيرها، وإلاّ بطلت حجتهم، وكان من عادات بعض القبائل أنهم لا يحلقون رؤوسهم إلاّ عند أصنامهم.
وكان الحجاج يغادرون “منى” في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، وبهذا يكون الحجاج قد أكملوا حجهم.
الخاطرة 63
عمّان في 21/ 5/ 2023