وطنا اليوم – يشهد العالم تحولات اقتصادية عميقة؛ نتيجة جُملة من العوامل المتزامنة؛ بدايةً من تبعات جائحة كورونا وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على مختلف الأصعدة والقطاعات، وصولاً إلى أثر تفاعلات سياسية جديدة تقود إلى تغيرات جذرية تلف المشهدين السياسي والاقتصادي، وتضفي مزيداً من التحديات غير المسبوقة منذ فترات طويلة.
قبل بداية العام 2022 كان التفاؤل النسبي يسود المشهد العالمي، لجهة توقعات التعافي التدريجي (السريع بالنسبة لبعض الدول، والمتباطئ بالنسبة لدول أخرى) من تداعيات كورونا، والتي يُتوقع أن تكلف الاقتصاد العالمي خسائر قيمتها 15 تريليون دولار حتى العام 2024 طبقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.
لكنّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي كانت كفيلة بإحباط تلك التوقعات ومضاعفة اضطرابات المشهد، بما أسهم في خلق أزمات عميقة جديدة تضع اقتصاد العالم على المحك، وهو ما كان محركاً لتوقعات سلبية حول مؤشرات غير مسبوقة منذ ثلاثة عقود، تضمنها أحدث تقارير البنك الدولي، والذي يشير في توقعاته إلى:
نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.7 بالمئة في 2023 مقارنة بـ 3 بالمئة (في تقرير يونيو الماضي)
تعد هذه النسبة “أبطأ وتيرة نمو” منذ 3 عقود تقريباً (باستثناء موجتي الكساد في 2009 و2020)
موجات التباطؤ في الاقتصادات المتقدمة تنذر بحدوث كساد عالمي جديد
يأتي ذلك في ضوء التطورات المتسارعة بعد 24 فبراير 2022، فقد بات العالم أمام معطيات مختلفة، انعكست بشكل أساسي على الأوضاع الاقتصادية، وسط أزمات مختلفة من بينها أزمة الطاقة والغذاء واسعة المدى، لجهة تأثير الحرب المستعرة في أوكرانيا على أسواق السلع الأولية، وسلاسل الإمداد، والتضخم، والأوضاع المالية العامة، وجميعها عوامل تلقي بظلالها على الآفاق المستقبلية للنمو العالمي.
مشهد معقد
دفعت تلك الأزمات المُتداخلة إلى مشهد اقتصادي معقد؛ مع ارتفاع أسعار الفائدة وانهيار عديد من العملات وتراجع الوظائف وفرص التكافؤ ومساواة الأجور. فيما تدفع البلدان النامية فاتورة مضاعفة لتلك العوامل، لا سيما لجهة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
في السياق نفسه، وأمام المعضلات المذكورة، حذرت تقديرات سابقة لصندوق النقد الدولي، من أن الاقتصاد العالمي من المُرجح أن:
يخسر 4 تريليونات دولار (ما يعادل تقريباً حجم الاقتصاد الألماني) بحلول نهاية العام 2026
في وقت يصعب على كثير من البلدان تجنب مخاطر الركود، فإن “الأسوأ لم يأت بعد!” طبقاً للمديرة العامة للصندوق كريستينا جورجيفا، في أكتوبر الماضي
شبح الانكماش يواجه الاقتصادات التي تمثل أكثر من ثلث الناتج العالمي
أكبر ثلاث اقتصادات على مستوى العالم (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين) تتباطأ بشكل حاد
ثلاثة عوامل رئيسية
في تحليله للمشهد الراهن في ضوء توقعات البنك الدولي، يقول المستشار والخبير الاقتصادي الدكتور كمال أمين الوصال، في تصريحات خاصة لموقع “نيوز عربية”، إن مسارات الاقتصادات الرئيسية بشكل خاص والاقتصاد العالمي عموماً، سوف تتوقف في العام 2023 وربما في الأجل المتوسط على ثلاثة عوامل أساسية:
العامل الأول: مآلات التوترات الجيوسياسية في المناطق الساخنة في العالم، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا بشكل أساسي
العامل الثاني: احتمالات ظهور متحورات جديدة من فيروس كورونا أو أي شكل من أشكال الأوبئة العالمية
العامل الثالث: الانتقاء الدقيق لمجموعة السياسات المرتبطة بالتعامل مع الوضع القائم
يشير الوصال إلى أن “الاقتصاد العالمي يشهد حالة من الغموض ربما لم يشهدها منذ سنوات بعيدة، وذلك في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي والتوترات الجيوسياسية التي تغطي عديداً من المناطق حول العالم، والأزمة الروسية الأوكرانية ومسارها غير الواضح حتى الآن”.
ويلفت إلى أن “روسيا تعتمد على مواردها الذاتية وشبه اكتفائها الذاتي من السلع الأساسية، بالتالي قادرة على إطالة أمد الحرب وتحمل تبعاتها حتى في ضوء الخسائر التي تلحق بها.. وبالتالي هي ماضية في هذا السياق نظراً لأهمية المنطقة بالنسبة لها واعتبارها أن الأمر يتعلق بوجود روسيا كقوة مؤثرة في العالم”.
ويؤكد المستشار والخبير الاقتصادي في السياق نفسه أن عديداً من مناطق التوتر الأخرى حول العالم والتي تؤثر بدورها على آفاق الاقتصاد العالمي، ومنها:
الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وانعكاساتها (مستشهداً بالأزمة اليمنية وتداخلاتها المختلفة)
الأزمات التي تضرب عديداً من الدول والناجمة عن تبعات جائحة كورونا، وفي ظل عدم تعافي الاقتصاد العالمي بشكل كامل من تداعيات الجائحة بعد، وبرغم أن العالم أصبح أكثر قدرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات الركود التضخمي
وفي السياق، يعتقد الوصال بأن ما قد يؤدي إلى إطالة أمد الركود التضخمي الذي يصيب دول العالم، هي “المعالجة”؛ ذلك أن معظم الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تعتمد بشكل أساسي على السياسات النقدية، وتستهدف التضخم.
وهذا -في تقدير الخبير الاقتصادي- يتعارض مع حقيقة أن التضخم الحادث حالياً في معظم دول العالم هو تضخم مدفوع بزيادة في نفقات الإنتاج وليس فقط زيادة في الطلب، وبالتالي فإن المعالجة غير كاملة، بما يحتم الانتقاء الدقيق لمجموعة السياسات التي يتعين تبنيها للتعامل مع هذا الوضع، مع عدم الافراط في الاعتماد على السياسة النقدية التي هي “غير قادرة على التعامل مع الوضع بالشكل الأمثل”.
تدابير حمائية عاجلة
وفي هذا السياق، كان صندوق النقد الدولي قد حدد عدداً من العوامل الأساسية في مواجهة آفاق ذلك المشهد الضبابي الذي يلف مصير الاقتصاد العالمي، أبرزها:
ارتكاز السياسات النقدية على العمل من أجل استعادة استقرار الأسعار
توجيه السياسات المالية العامة لتخفيف الضغوط الناجمة عن ارتفاع تكلفة المعيشة
العمل على إصلاحات هيكلية لكبح جماح معدلات التضخم (عبر تحسين الإنتاجية والحد من نقص الإمدادات)
التعاون متعدد الأطراف لتسريع مسار التحول إلى الطاقة الخضراء
كما رصد تقرير الآفاق الاقتصادية المستقبلية الصادر عن البنك الدولي، في يونيو الماضي، مجموعة من الإجراءات الضرورية على صعيدي السياسات الوطنية والعالمية، من أجل تجنب عواقب الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي، تتضمن:
تسريع تدابير تخفيف وطأة الديون
الحد من “السياسات التشويهية” مثل ضوابط الأسعار، وإعانات الدعم، وفرض الحظر على الصادرات، التي يمكن أن تفاقم الوضع السيء
إعادة ترتيب أولويات الإنفاق من قبل الحكومات لصالح المساعدات الإغاثية الموجهة للفئات السكانية الأكثر احتياجاً.
إشارة سلبية على مسار الاقتصاد العالمي
من جانبه، يوضح الكاتب والخبير الاقتصادي السعودي، سليمان العساف، في تصريحات خاصة لموقع “سكاي نيوز عربية” أن خفض نسبة النمو المتوقع للعام 2023 في أحدث التقارير الصادرة عن البنك الدولي إلى 1.7 بالمئة نزولاً من 3 بالمئة في تقرير يونيو الماضي، إنما يشكل إشارة سلبية على مسار الاقتصاد العالمي.
ويشير إلى أن ثمة أسباباً رئيسية ترتبط بها تلك التوقعات، في مقدمتها الحرب الدائرة في أوكرانيا وتداعياتها واسعة المدى، إضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة التي تشهدها الاقتصادات المختلفة، وكذا اضطرار الفيدرالي الأميركي لرفع الفائدة لتتبعه البنوك المركزية بعد ذلك، بما يعزز حالة الركود، على اعتبار أن ذلك يسهم في سحب السيولة من الأسواق.
ويضيف إلى تلك العوامل ارتفاع النفط، الأمر الذي أثر على عديد من الاقتصادات حول العالم بشكل مباشر. وجميعها مجتمعة عوامل تسفر عن حالة عدم يقين تسيطر على الاقتصاد العالمي بشكل عام.
ويردف العساف: “تشير التوقعات إلى أن أكثر من 90 دولة في العالم سوف تحقق ركوداً في العام 2023، وهذا الأمر لم نره في الخمسة عقود الماضية إلا خلال أزمة كورونا في العام 2020 عندما ألحقت بالاقتصاد العالمي ضربة قاصمة”.
لكنه بموازاة ذلك يشير إلى التفاؤل الذي تعيشه عدد من الاقتصادات (المصدرة للطاقة)، ومن بينها دول الخليج، مردفاً: “بالنسبة لدول الخليج على سبيل المثال يتوقع أن تكون هناك طفرات في تحقيق فوائض، مع ارتفاع عائدات النفط والإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها بعض الدول في المنطقة”.
البلدان النامية
فيما تقف الاقتصادات النامية بشكل خاص أمام تحديات مضاعفة؛ من أجل الموازنة بين الحاجة الماسة لضمان استدامة المالية العامة أولاً، وفي الوقت نفسه التخفيف من آثار الأزمات المختلفة على المواطنين، لا سيما الأكثر احتياجاً وفقراً.
ويقول البنك الدولي في تقريره الأخير إن “التوقعات القاتمة ستكون صعبة بدرجة أكبر على الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، في ظل مواجهتها أعباء دين ثقيلة، مع ضعف العملة وضعف نمو الدخل ، وتباطؤ استثمار الشركات الذي من المتوقع الآن أن يحقق معدل نمو سنوي نسبته 3.5 بالمئة خلال العامين القادمين، وهو أقل من نصف وتيرة العقدين الماضيين”.
بارقة أمل رغم حالة عدم اليقين
على الجانب الآخر، يتحدث عضو المجلس الاستشاري لمعهد الأوراق المالية والاستثمار البريطاني في دبي، وضاح الطه، في تصريحات خاصة لموقع “سكاي نيوز عربية” عن بارقة أمل في العام 2023، ممثلة في:
دور الاقتصاد الصيني كمحرك لاقتصادات أخرى، وفي ضوء تخلي الصين عن سياسة (صفر كوفيد) يعطي ذلك ربما حتى الآن بارقة أمل إلى حالة من النمو الحذر التقليل المتوقع لوطأة رفع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما وأن الاستمرار في رفع الفائدة يضغط بشكل كبير لتحقيق حالة الانكماش في أكثر من دولة ويضيف الطه: “في تقديري، أعتقد بأنه على الأقل في الربع الأول من العام لن نشهد علامة من العلامات التي قد تطيح بمعدلات النمو بشكل سلبي”، موضحاً في الوقت نفسه أن “التقرير الصادر عن البنك الدولي يعبر عن حالة القلق حول الاقتصاد العالمي والمخاطر التي تحيط بالاقتصادات، بشكل خاص الاقتصادات الكبرى.
خفض البنك الدولي توقعات النمو بالنسبة للولايات المتحدة من 2.4 بالمئة إلى 0.5 بالمئة، والصين من 5.2 بالمئة إلى 4.3 بالمئة، واليابان من 1.3 بالمئة إلى 1 بالمئة، وأوروبا ومنطقة وسط آسيا ت من 1.5 بالمئة إلى 1 بالمئة. ويشير الطه إلى أن تلك التخفيضات “تعبر عن حالة عدم اليقين فيما يتعلق بحركة الاقتصاد العالمي”.