وطنا اليوم:شللٌ خدمي كامل تشهده المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري. “لا كهرباء ولا ماء وحتى شبكات الاتصالات السلكية باتت خارج الخدمة”، كما يقول سكانٌ في مدينتي دمشق وحمص، واصفين الحال بأنه “الأسوأ الذي يمر عليهم منذ سنوات طويلة”، رغم أن الأزمة المعيشية ليست بجديدة.
ترتبط أسباب هذا “الشلل” بشكل أساسي بأزمة المحروقات التي تضرب سوريا منذ سنوات طويلة، فيما استعرت تداعياتها خلال الأسابيع الماضية على نحو غير مسبوق، في وقت أعلنت حكومة النظام السوري تقليص الكميات المخصصة للمحافظات والمؤسسات الرسمية في البلاد، بسبب “ضعف التوريدات”.
في مدينة حمص وسط البلاد باتت ساعات تقنين الكهرباء ضمن معادلة “10 ساعات قطع مقابل ربع ساعة وصل”، كما يوضح الشاب عبد الكريم، مضيفا في سياق متصل أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدث، إذ انقطعت شبكات الاتصالات السلكية في المقابل، بسبب انعدام المحروقات اللازمة لتشغيل مولدات المقاسم.
وكذلك الأمر بالنسبة للمياه في المدينة، والتي يواجه السكان صعوبة في استخراجها من الآبار بسبب انقطاع الكهرباء لفترات طويلة، بينما باتوا عاجزين عن الحصول عليها عن طريق نقلها بالصهاريج التي تتطلب وقودا “هو في الأصل مقطوع”، وفق حديث الشاب.
وأوضحت “الشركة السورية للاتصالات”، الأربعاء، في بيان نشرته صحف شبه رسمية أن سبب خروج عدد من مراكزها الهاتفية عن الخدمة “يعود لصعوبة تأمين الوقود اللازم لعمل المولدات الكهربائية، والضرورية لتأمين استمرارية تشغيل هذه المراكز خلال فترات التقنين بالتيار الكهربائي”. وقالت إنها “تعمل بشكل مستمر لتأمين مادة الوقود لعودة المراكز إلى الخدمة وضمان عدالة التوزيع بحسب الموارد المتوافرة”.
وهذه هي المرة الأولى التي تتوقف فيها مقاسم تشغيل الهاتف الأرضي في سوريا، بسبب انعدام المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات، ما يعطي مؤشرا عن الدرجة التي وصلت لها الأزمة التي لم تجد لها الحكومة السورية أي حلول حتى الآن، رغم أنها قديمة وباتت واقعا روتينيا.
وفي إشارة منها وعقب إقدامها قبل أيام على تخفيض طلبات المحروقات التي تحتاجها محطات الوقود في عموم المحافظات السورية طلبت حكومة النظام السوري من الجهات العامة تخفيض الكميات المخصصة من مادتي البنزين والمازوت للسيارات السياحية الحكومية، بنسبة 40 بالمئة لكل سيارة.
وجاء ذلك ضمن بلاغ أصدره رئيسها، حسين عرنوس، طلب فيه أيضا من الجهات العامة “عدم منح مهمات السفر التي يترتب عليها صرف محروقات بالنسبة للسيارات، إلا للأسباب الضرورية والملحة”.
وبحسب البلاغ فإن التخفيض “يأتي في إطار استجابة الحكومة للظروف التي يشهدها سوق المشتقات النفطية، بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية الجائرة المفروضة على البلد”، وفق تعبير عرنوس.
وسرعان ما اتجهت الحكومة ذاتها من جانب آخر لرفع تسعيرة النقل في العاصمة دمشق إلى الضعف تقريبا. وجاء في بيان لـ”لجنة تحديد الأسعار” أن تعرفة الركوب للمسافات القصيرة باتت 300 ليرة، للخطوط الطويلة 400.
“الحياة مضرّة”
في العاصمة دمشق، التي ما تزال تحتفظ بسجلها “كأسوأ مدينة بالنظر إلى الظروف المعيشية”، يتحدث الصحفي باسل المقيم فيها عن كيف أصبحت كراجاتها والشوارع فيها “خاوية من وسائل النقل الخاصة والعمومية أيضا”، بسبب فقدان المحروقات من معظم محطات الوقود.
“لا حياة تذكر. إن كانت موجودة فهي مضرّة بالصحة”، حسب تعبير الصحفي السوري الذي فضّل عدم ذكر اسمه لاعتبارات أمنية، متسائلا : “محافظات لا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات فيها. عليك أن تتخيل المشهد فقط. لا كلمات تصف ما نعيشه”.
ويقول سالم إن ساعات تقنين الكهرباء ارتفعت لتصل في بعض أحياء دمشق إلى 14 ساعة قطع مقابل ساعة واحدة وصل، بمعنى “في كل 28 ساعة هناك ساعتين فقط. ورغم ذلك تشهد هذه الفترة انقطاعات متتالية لا نعرف الغاية منها”، وفق توضيحه.
في غضون ذلك ذكرت شبكة “صوت العاصمة” التي تغطي أخبار دمشق أن أزمة المحروقات نتج عنها ارتفاع مادتي البنزين والمازوت في “السوق السوداء”، وأن سعر صفيحة البنزين (20 ليترا) وصلت إلى 200 ألف ليرة سورية وأكثر.
“الدخول إلى محطات البيع المباشر في المحطات (أوكتان) برشاوى وصلت إلى 50 ألف ليرة سورية”، فيما أضافت الشبكة المحلية من جانب آخر إلى أن شبكة الكهرباء مقطوعة عن بعض أحياء دمشق منذ 24 ساعات.
وتحدثت أن معظم المصانع التي تعتمد على مولدات الكهرباء أغلقت أبوابها نتيجة انعدام الوقود، بينما معظم السرافيس وسيارات الأجرة (التاكسي) متوقفة عن العمل.
“لا يوجد أي توقيت واضح لانتهاء أزمة الوقود الحالية. وهناك كلام في أروقة الحكومة عن إيقاف الدوام لمدة أسبوع وإعلان عطلة رسمية من الخميس ريثما يتم تأمين مشتقات نفطية من إيران”، وفق ذات الشبكة.
بدورها نقلت صحيفة “الوطن” شبه الرسمية أن معظم المحافظات شهدت تخفيض طلبات المحروقات من مادتي المازوت والبنزين بنسبة وصلت إلى نحو 50 بالمئة، من إجمالي عدد الطلبات المخصصة لكل محافظة بشكل يومي.
وأضافت أن الحكومة “بحثت الأربعاء واقع توريدات المشتقات النفطية والنقص الحاصل فيها، والإجراءات المقترحة لضمان استمرار توزيع المازوت الزراعي ومازوت التدفئة، إضافة إلى عمل القطاعات الأساسية كالأفران والمشافي ومختلف الخدمات العامة الأساسية”.
ماذا يحصل؟
على مدى الأعوام الماضية أدارت حكومة النظام السوري الأزمة المعيشية في سوريا بطريقة “خاصة”، متجهة بذلك إلى رفع أسعار المواد التي تمس حياة السوريين بشكل يومي، أو تخفيض المخصصات المتعلقة بها.
وفي تقرير لها، أواخر العام الماضي، بررت وسائل إعلام شبه رسمية هذه الإجراءات بأنها ترتبط بـ”عجز الحكومة على تمويل المواد المدعومة، لانعكاس غليان الأسواق العالمية على الكميات المتاحة من المواد الغذائية”.
في المقابل تحدث رئيس الحكومة، حسين عرنوس، قبل أشهر، عما وصفه بـ”تحريك أسعار” الخبز والمازوت، لأسباب خارجة عن الإرادة لكلا النوعين، لضمان استمرار تأمينهما.
وتبرر الرواية الرسمية للنظام السوري الأزمات المعيشية والخاصة بالمحروقات بأن سببها الرئيسي هو العقوبات الغربية المفروضة على سوريا، فيما أكدت الولايات المتحدة والدول الأوربية سابقا أن إجراءاتهم ضد الأسد وأركانه لا تشمل القطاعات الحيوية الخاصة بحياة السوريين.
وتعتمد حكومة الأسد، منذ سنوات، على التوريدات النفطية التي توردها الدول الداعمة للنظام وخاصة إيران. وتعتمد، أيضا، على تهريب المحروقات عبر صهاريج من المناطق الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في مناطق شمال وشرق سوريا.
وكانت رفعت إيران رفعت، في مطلع نوفمبر الحالي، من كميات النفط الخام المورد إلى النظام السوري وفق آلية “الخط الائتماني الإيراني”، من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل شهرياً؛ بهدف التخفيف من أزمة المحروقات التي يعاني منها النظام.
ونقلت وسائل إعلام رسمية سورية أنّ “الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اتخذ قرارا بزيادة كميات التوريدات النفطية إلى سوريا، من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل شهريا، لمساعدتها في تجاوز أزمة الطاقة التي تعاني منها”.
وأوضحت أن الخطوة الإيرانية الجديدة وآثارها “الإيجابية” بحثها وزير الطرق وبناء المدن السابق في إيران، رستم قاسمي، مع رئيس النظام، بشار الأسد، خلال زيارته إلى سورية، الشهر الماضي.
قبل ذلك، في أبريل الماضي، كانت حكومة النظام وعلى لسان رئيسها عرنوس كشفت أنّ حاجة سوريا اليومية من النفط هي 200 ألف برميل، بينما الإنتاج لا يتجاوز 20 ألف برميل فقط، مضيفا أنّ الحكومة تعمل شهريا على تأمين 3.5 ملايين برميل من خلال الاستيراد، حيث يتم تأمين الباقي من “الخط الائتماني الإيراني”.
“سلسلة أسباب”
ويوضح الاستشاري الاقتصادي السوري، يونس الكريم أن الأزمة التي تعيشها المحافظات السورية “متوقعة” ولها أسباب كثيرة، أولها “فشل النظام السوري في دفع المستحقات المالية للجانب الإيراني، لاستقدام شحنات النفط”.
إضافة إلى “فشله في دفع المستحقات المالية لميليشيات الحشد الشعبي التي تعمل على إدخال المحروقات من داخل العراق إلى سوريا، ودفع الأموال لقوات سوريا الديمقراطية، التي تزوده بالنفط الخام منذ سنوات”، وفق الكريم.
وهناك أسباب أخرى، إذ يقول الاستشاري إن التصعيد الحاصل في مناطق “قسد” كان له الأثر أيضا في توقف توريدات النفط إلى مناطق النظام السوري، موضحا أن هذه “الكمية تصل إلى حد 10 آلاف برميل بشكل يومي”.
علاوة على ذلك، لا يستبعد الكريم أن يكون جزء من “الأزمة الحاصلة مفتعلة”، في مسعى من حكومة النظام السوري الاتجاه لخصخصة القطاعات الأساسية.
وقبل أسابيع أصدر بشار الأسد القانون رقم 41، والذي أجاز بموجبه للمستثمرين بإنشاء محطات توليد الكهرباء اعتمادا على الطاقات المتجددة وبيعها للمشتركين، أو تصديرها عبر الشبكة.
وحسب “رئاسة الجمهورية”، فإن القانون “يسمح للمؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء وشركات الكهرباء في المحافظات شراء الكهرباء المنتَجة من هذه المحطات بأسعار يتمّ الاتفاق عليها مع المستثمر”.
بدوره يشير الكريم إلى أن “أقسام الهاتف الأرضي من أهم مؤسسات الدولة في سوريا. قد يكون هذا القطاع أيضا على موعد بالخصخصة. النظام لا خيارات له سوى التشاركية”.
“اختناقات وخفّض ثم اعترض”
وتعتبر الأزمة التي تعيشها سوريا “الأسوأ” اقتصاديا ومعيشيا، وتترافق إلى جانب فقدان المحروقات مع انهيار قياسي في قيمة الليرة وتآكل القدرة الشرائية للسوريين الذين يعيش الجزء الأكبر منهم تحت خط الفقر، حسب الأمم المتحدة.
وبفضل دعم حليفين أساسيين، روسيا وإيران، استعاد الأسد تدريجيا الجزء الأكبر من مساحة البلاد، وبات اليوم يسيطر على أكثر من سبعين في المئة منها وتضم غالبية المدن الرئيسية، لكن مايزال يقف عاجزا أمام تحريك عجلة المعيشة والاقتصاد لمن يعيش في مناطق سيطرته.
ونشرت صحيفة “البعث” الناطقة باسم “حزب البعث العربي الاشتراكي” في سوريا تقريرا الأربعاء تحت عنوان “اختناقات نفطية لتأخر التوريدات.. إدارة عرجاء للأزمة على مبدأ خفّض ثم اعترض”.
ولم تأت أزمة المشتقات النفطية الحالية “مباغتة” أو “مفاجئة” كما كانت الأزمات السابقة بتصريحات المسؤولين، حيث استبق رئيس الحكومة حسين عرنوس الأزمة الجديدة بشهرين.
وتتابع الصحيفة: “حين كشف وبوضوح أمام العمال في مجلسهم بأن الحكومة اختارت أولوية القمح على النفط في سباق أولويات القطع الأجنبي، ما قرأه الكثيرون أنه تمهيد لأزمة نفط مقبلة أمام شح الإمكانات”.
ومنذ أكثر من أسبوع، بدأت معالم نقص كميات المحروقات تظهر عبر تخفيض مخصصات النقل و”فرملة” توزيع مخصصات التدفئة، وتأخر رسائل تعبئة البنزين للسيارات الخاصة.
وأوضح عضو مجلس الشعب، زهير تيناوي لـ “البعث” أن تأخر في توريدات النفط سبّب الاختناقات الحالية، فيما من المتوقع وصولها خلال أيام للمرافئ السورية ليبدأ تفريغها وتكريرها”.
من جتهتا تحدثت الصحيفة أن مظاهر الطوابير عادت على بعض كازيات العاصمة دمشق، بالتزامن مع تأخر رسائل البنزين لـ 15 يوما لدى البعض، فيما وصل سعر ليتر البنزين الحر إلى 12 ألف ليرة في بعض المناطق.
أما في القطاع الصناعي، فقد أكد مستثمرون أنهم منذ أشهر لم يستلموا مخصصاتهم المحددة بسعر 2500 ليرة، ليعتمد معظمهم على مازوت “السوداء” بسعر 5 – 6 آلاف ليرة، فيما وصل مؤخرا إلى 8 – 9 آلاف ليرة لليتر الواحد