البربيطة… فقر أم تفقير؟

11 سبتمبر 2022
البربيطة… فقر أم تفقير؟

بقلم : منال كشت

ترتسم الابتسامة على وجه الفتيات الصغيرات بعد أن يقرع جرس الحصة الأخيرة معلنًا انتهاء دوام يوم مدرسي اخر، بينما يتجاذب صغار المرحلة الأساسية أطراف الحديث وهم يتجهون إلى منازلهم مغادرين ساحة المدرسة.

حتى هذه اللحظة تبدو الأمور جميلة واعتيادية؛ فجدران المدرسة تملؤها الرسومات والألوان المبهجة، والمعلمات يعملن بكل جهد وحب، والنظام يسود في كل الانحاء، لكن سرعان ما تتبعثر هذه الصورة على مشهد لطفل صغير لا يتجاوز من العمر ست سنوات يمشي صاعدًا الجبل عائدًا الى “خيمته” التي تبعد ١٢ كم عن مدرسته.

رحلة الشتاء والصيف
ما يزيد عن ٢٥٠ طالب وطالبة يدرسون في مدرسة سيل الحسا الأساسية المختلطة في منطقة البربيطة، ويعمل فيها أكثر من ٢٨ معلمة وإدارية يحضرون من محافظتي الطفيلة والكرك إلى المدرسة في باصات صغيرة يتشاركن أجرتها في رحلة يومية تزيد عن الساعة وربما ساعتين الى مراكز محافظاتهن مرتين يوميا، رغم حرمانهن من الزيادة المقررة لغيرهم من المعلمات والمعلمين والتي تصل الى ١٥٠ دينار شهريًا بحجة أنهن يعملن داخل الإقليم.

صعودًا بإتجاه أعلى الجبل ولمسافة ١٢ كم يمشي الأطفال، صيفًا شتاء، في ظروف قاسية للعودة إلى خيمهم، لينالوا قسطا من الراحة قبل أن يأتي الأستاذ عمر البدور إليهم في الخيمة الصغيرة ليتداركوا سوية ما فاتهم من تعلم خلال جائحة كورونا.

عمر البدور … الملاك المنقذ
يعمل عمر معلمًا في مدرسة البربيطة الأساسية المختلطة، والتي تحتضن ٢٠ طالبا من الذكور و ٥ من الإناث. حيث اضطرت الكثير من الفتيات للتسرب من الدراسة بسبب تجميع الطلبة في صفوف واحدة في المرحلة الإعدادية والثانوية وبسبب وجود مرافق صحية مشتركة للذكور والإناث، وهو ما لا يمكن أن يتوافق مع الدين أو العادات أو التقاليد، وعليه تنسحب الفتيات من المدرسة بسبب عدم القدرة على التكيف مع الاختلاط وعدم القدرة على المشي يوميًا لمسافات طويلة تحت أشعة الشمس اللاهبة أو برد الشتاء القارس.

لمن لا يعرف الأستاذ عمر البدور فهو المعلم الذي اعتدنا رؤيته يتنقل بين خيم الطلبة أثناء جائحة كورونا بلوحه الأبيض الصغير وسيارته المتهالكة ليعوضهم عما فاتهم من دروس، فهؤلاء الأطفال لا يعرفون المنصات الحكومية ولا تصلهم إشارات شبكات الإتصالات وليس لديهم أية أجهزة أو هواتف ذكية لمتابعة الدروس.

ينهي عمر عمله في مدرسة البربيطة ويتوجه إلى تلك الخيم والتي تضم ٧٥ عائلة وعشرات الأطفال مدفوعًا بشغفه وإيمانه بقدرته على خدمة أبناء منطقته، غير مكترث بقرارات الحكومة برفع أسعار البنزين شهرًا بعد شهر والذي اضطره لبيع سيارته التي أنهكتها الطرق المتعرجة ولم يعد يحتمل كلفة صيانتها المتكررة، وعليه يتعين عليه الوقوف “عند المثلث” بعد المشي لمسافات طويلة بانتظار سيارة عابرة ، وهم قلة، لإيصاله إلى أقرب نقطة على الشارع الرئيسي ليعود إلى بيته الذي يبعد مسافة ساعة أو أكثر.

يقع العبء كاملًا في تدريس الطلبة على المعلمات والمعلمين؛ فمعظم الطلبة وخاصة الذكور لا يصطحبون كتبهم المدرسية إلى منازلهم؛ فمن جهة لا يوجد من يستطيع متابعة أداءهم للواجبات الدراسية، ومن جهة أخرى ينشغل هؤلاء الطلبة مع آباءهم في أعمال مياومة في المزارع لتحصيل رزقتهم، ومع هذا يتفوق الكثيرون منهم في دراستهم سنويا رغم كل هذه الظروف.

مكرمة ملكية منزوعة الدسم
طلبة البربيطة أنهكهم التفقير والفساد؛ فبعد إيعاز جلالة الملك ببناء وحدات سكنية للأهالي تحت مسمى إسكان سيل الحسا بدلًا من الخيم التي تجرفها السيول كل شتاء، تم إنشاء ١٨ وحدة سكنية فقط من أصل ٧٥، وزيادة على هذا لم يتسلم الأهالي هذه الوحدات السكنية منذ عام ٢٠١٧ وذلك بسبب عدم مطابقة شروط البناء وبسبب “تقبع البلاط”، مما أجبر هيئة مكافحة الفساد على التقصي في الموضوع دون أي نتيجة حتى يومنا هذا، فالوحدات السكنية الملاصقة للمدرسة فارغة ورحلة ١٢ كم ما زالت مستمرة.

عقارب وافاعي وطبيعة لا تعرف الرحمة
حتى الشتاء لم يكن رحيما بهؤلاء الاطفال؛ طفلة صغيرة فقدت حياتها قبل سنوات بعد أن جرفها السيل فجأة وهي في طريقة عودتها من المدرسة.

أطفال آخرون فقدوا حياتهم بعد أن تعرضوا للدغة عقرب أو قرصة افعى أو حادثة سقوط؛ فالمكان كاملًا يخلو من أي مركز صحي أو مستشفى والتي تبعد ما لا يقل عن ساعة على أقرب تقدير، ناهيك طبعا عن وقت انتظار مرور أي سيارة. أما التأمين فلا يتعرف أصلا على مثل هذه “الحوادث الطارئة” متناسين أن العقرب والافعى وغيرهم شريك لهؤلاء المساكين في خيمهم وليسوا “طارئين”.

معركة المياه
يعمل الأهالي بكل جهد لتوفير لقمة عيشهم، إلا أن شح المياه يقف عائقًا أساسيًا أمامهم، فهم يعملون في زراعة البندورة موسميًا ومع ذلك يتعرضون للكثير من المشاكل.

فمن يقنع العاملين في إدارة شركة البوتاس في المنطقة أن احتكارهم لماء سد التنور هو إجراء قانوني، وأن جرافاتهم والتي ترافقها المدرعات الأمنية والتي تقوم بجرف وقطع انابيب الري التي يستخدمها المزارعون من السيل لري مزارعهم بالغة الصغر ستصمد طويلا أمام جوع هذه العائلات؟

من يُصدق أن بعد ١٠٠ سنة من عمر الدولة الأردنية ما زال أهالي البربيطة يحضرون الماء “برتقالي اللون” من البئر ويضعونه في براميل بلاستيكية ويتركونه حتى يترسب الرمل في قاعه ليشربونه لاحقًا ويصاب العديد منهم بالأمراض التي تؤدي الى الوفاة أحيانا؟

مسؤولون بلا ضمير
في مشهد واقعي حد الخيال، يتجول أحد الأطفال حولنا بلا حذاء وتبين لنا لاحقًا بأن إحدى الجهات قامت بإرسال أحذية إلى “أطفال المدرسة” ولأن هذا الطفل لم يذهب إلى المدرسة بعد اصغر سنه، تُرك حافيا تصارع قدميه الصغيرتين الصخر.

أما المسؤولون والذوات والنواب فلا يعرفون من البربيطة إلا “أصوات انتخابية”؛ يستبشر الأهالي الخير في زيارتهم ووعودهم أيام الانتخابات والتي لا تلبث أن تذهب أدراج الرياح مع أحلامهم وآمالهم.

يتبادل المهتمون بحقوق الطفل وحماية المنظومة الأسرية الاتهامات فيما يتعلق بأفضل السبل لحماية الطفل في مكاتبهم ومنازلهم الوثيرة، في الوقت الذي يتوجه فيه هؤلاء الأطفال إلى مدارسهم حاملين كسرة خبز “ناشفة”، فالحال على “قد الايد” “والبكب مش كل يوم فيها سولار” ، “واليوم الي ما فيه سولار ما في روحة على المدرسة”.

ثروات منهوبة
تشتهر المنطقة بالمناطق السياحية مثل حمامات البربيطة، إلا أن المحسوبية والواسطة عملت بشكل كبير على توجيه الدعم بمئات الآلاف من الدنانير لأشخاص تربطهم علاقات بمتنفذين من خارج المنطقة للاستثمار والتنفع دون أن تعود هذه المشاريع بأي منفعة على السكان المحليين.

لا أعلم ما الذي يمنع المجالس المحلية في الطفيلة ونواب المنطقة من الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والمشاريع السياحية والمعادن؟

ولكن كل ما أعرفه انه عندما أنظر في عيون هؤلاء الأطفال فإنني أشعر بالخزي والعار؛ فكلنا شركاء فيما وصلوا إليه من “تفقير”.