وطنا اليوم – تنشر وطنا اليوم على التوالي حلقات من كتاب عمرو موسى ” سنوات الجامعة العربية” يستعرض فيه موسى ما كان يدور في اروقة الجامعة العربية إبان توليه رئاسة الجامعة العربية، وخصصت هذه الحلقة حول الازمة في ليبيا.
شلقم: موسى عارض عبارة «اتخاذ جميع التدابير» فى قرار مجلس الأمن خوفًا من استغلالها فى التدخل الأجنبى فى ليبيا
قلت لكل الأطراف فى باريس: قرار مجلس الأمن هدفه حماية المدنيين الليبيين لا غزو أو احتلال ليبيا
هاجمت هجوم التحالف على أهداف ليبية.. وقلت إنه بدلا من حماية المدنيين يوقع ضحايا إضافيين
شرحت لهيلارى المفهوم العربى للحظر الجوى وهو عدم التعرض للأهداف الأرضية الليبية
فى هذه الحلقة السادسة من كتاب عمرو موسى، الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، والذى سيصدر قريبا عن «دار الشروق»، نستكمل رواية موسى عن أحداث الثورة الليبية التى اندلعت فى فبراير 2011، التى خصص لها فصلان على مساحة 50 صفحة، وتركز هذه الحلقة على ما جاء فى الفصل الثانى، الذى أورده تحت عنوان: الخروج على التفويض العربى بحماية المدنيين الليبيين، والذى يكشف فيه كيف تعرض العرب للخديعة من عدد من الدول الغربية فيما يخص هذا الموضوع.
ويكشف عمرو موسى فى هذا الكتاب ــ الذى قام بتحريره وتوثيقه الكاتب الصحفى خالد أبو بكر ــ أسرار عشرية مليئة بالأحداث الجسام فى بلاد العرب كان فيها أمينا لجامعة الدول العربية (2001 ــ 2011)، فعلى مدار 19 فصلا، موزعة على 574 صفحة من القطع المتوسط، لم يترك الأمين العام قضية سياسية كانت الجامعة ــ وهو شخصيا طرفا فيها ــ إلا وتناولها فى أى بقعة من بقاع العالم العربى من محيطه إلى خليجه.
أخذ التخوف من استغلال بعض القوى فرض الحظر الجوى على ليبيا، بهدف حماية المدنيين من عنف القذافى، لضرب ليبيا قسطا كبيرا من المناقشات خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الطارئ فى 12 مارس 2011. ومن يراجع نص الفقرة رقم (1) بعد الديباجة فى القرار الصادر عن ذلك الاجتماع سيجدها تنص على:
الطلب من مجلس الأمن تحمل مسئولياته إزاء تدهور الأوضاع فى ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوى على حركة الطيران العسكرى الليبى فوريا، وإقامة مناطق آمنة فى الأماكن المتعرضة للقصف، كإجراءات وقائية تسمح بتوفير الحماية لأبناء الشعب الليبى والمقيمين فى ليبيا من مختلف الجنسيات، مع مراعاة السيادة والسلامة الإقليمية لدول الجوار.
أدعو للتوقف فى هذا النص أمام عبارة «كاجراءات وقائية»، التى اقترحها الدكتور نبيل العربى، وزير خارجية مصر خلال المناقشات، وكانت دوافعه فى ذلك ما قاله فى المناقشات المرتبطة بصياغة القرار كما يلى: «بالنظر إلى القرار المعروض أمامنا الآن نجد أن فلسفته تقضى إيجاد نوع من التوازن، وأنا أعتقد لكى يحدث هذا التوازن أن نضيف فى الفقرة الأولى بعد عبارة (فرض منطقة حظر جوي) عبارة (كإجراء وقائي)، نحن لا نطالب بضرب منشآت حكومية أو قواعد مدافع أو أى شىء من هذا القبيل، لكننا نقول (كإجراء وقائي). أنا أعتقد أن هذا يحدث التوازن للقرار، ويتفق مع الهدف الذى نرمى إليه جميعا وهو ليس استخدام القوة ضد ليبيا، ولكن التحقق من أن الطيران الليبى لن يتمكن من ضرب الشعب والاستمرار فى سفك الدماء، فأنا لا أعتقد أن هناك من سيتضايق من عبارة (كإجراء وقائي)، لأنها ستضبط الاتزان للقرار.
السبب الحقيقى الذى يجعل مصر ــ وإننى أتكلم بكل صراحة ــ تقول هذا الكلام، أن الصحف الأجنبية ووسائل الإعلام تتكلم حاليا عن دراسات تتم ــ أيا كان المكان الذى تتم فيه ــ على ضربات محددة على مواقع محددة، نحن جميعا دول عربية ولا يصح أن نقوم بشىء يشتم منه أننا نريد ضربات، ولكن نحن نريد أن نخيف القذافى بحيث يتوقف، هذا ما نأمله، وآخر شىء يقال إننا طالبنا به هو ضرب مواقع فى ليبيا، نحن لا نطالب بذلك، لا أظن أن أى دولة عربية هنا تطالب بضرب مواقع فى ليبيا أو أن يصدر عنا قرار بضرب مواقع فى ليبيا، نحن لا نطالب بضرب ليبيا، وبالتالى أرى النص على عبارة (كإجراء وقائي).
لم تعترض أى دولة عربية على تضمين عبارة «كإجراء وقائى» للقرار، ومن جانبى أيدت بقوة هذا المقترح، قلت إن «النص على تلك العبارة من شأنه ضبط الصياغة وإقامة الحد القانونى وطمأنة الرأى العام؛ فنحن لا نتعامل الآن ليس فقط مع مجلس الأمن أو مع السلطات الليبية، وإنما أيضا مع الرأى العام، فيجب أن تكون الأمور واضحة».
هذا المفهوم العربى لحظر الطيران على ليبيا هو ما شرحناه لمجلس الأمن وللقوى الغربية، فأكدوا تفهمهم لذلك، لكن الحقيقة أننا خدعنا، وفور صدور القرار ضربوا مواقع فى ليبيا وسقط ضحايا مدنيين جراء ذلك، واستهدفوا أنظمة الدفاع الجوى لديها، وهو ما استفز روسيا أيضا؛ لأن أنظمة الدفاع الجوى كانت روسية. كان الروس بشكل عام لديهم اعتراضات كبيرة على ضرب أهداف أرضية فى ليبيا.
اتضح فيما بعد أن الجانب الأمريكى كان لديه قائمة من الأهداف الليبية أصروا على ضربها، واعتبروا أن الحظر الجوى خطوة رمزية، وأنه يجب توفير دعم الأمم المتحدة لعمل عسكرى أكثر قوة إذا لزم الأمر، وفى هذا السياق تقول هيلارى كلينتون فى مذكراتها: «قرر الرئيس (أوباما) السير فى عملية التدخل (فى ليبيا) ووضع خطط عسكرية وتوفير صدور قرار من مجلس الأمن الدولى، ولكن بشرطين أساسيين. أولا، بما أن البنتاجون أكد لنا أن منطقة الحظر الجوى فى حد ذاتها ليست أكثر من خطوة رمزية، يجب توفير دعم الأمم المتحدة لعمل عسكرى أكثر قوة إذا لزم الأمر: سلطة استخدام «كل التدابير الممكنة» من أجل حماية المدنيين.
والواقع أن الأجواء كانت تواترت من أكثر من مصدر دبلوماسى وسياسى وإعلامى أن بعض الدول العربية سوف تنضم إلى أى جهد عسكرى غربى (أوروبى بالذات فى تلك المرحلة) لتأكيد الحظر الجوى الذى أمر به مجلس الأمن.
وفى هذا حضرت هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية للقائى، التى قالت فى مذكراتها: «طرت صباح 15 مارس من باريس إلى القاهرة كى أقابل عمرو موسى، والتشديد على أهمية دور الجامعة العربية فى دعم التدخل العسكرى والمشاركة فيه»، باعتبار أن ذلك يقع فى مصلحة ليبيا وليس مصلحة الغرب.
من جانبى شرحت فى لقائى مع هيلارى المفهوم العربى لفرض حظر جوى على ليبيا، الذى لا يتم بمقتضاه التعرض لأهداف أرضية أيا كان نوعها عسكرية أو مدنية، بالمعنى الذى طرح فى الاجتماع الوزارى العربى، وبمقتضى عبارة «كإجراء وقائى». وأشرت إلى أن الإمارات وقطر أعلنتا مشاركتهما فى فرض الحظر الجوى، لم يكن ذلك سرا، صحفهما نشرت هذا الكلام. كان المهم ان الجامعة العربية لم يصدر عنها أى قرار يسمح بالمشاركة.
وفى اجتماعاتى التشاورية مع خبراء الأمانة العامة المتابعين بدقة لتطورات الموضوع وبعض المستشارين القانونيين والسياسيين، كان الرأى عدم معارضة هذه الخطوة العربية الجزئية بالمشاركة فى فرض الحر الجوى على ليبيا علانية لأسباب تبلورت فى:
1ــ أنها قرارات سيادية من دولتين أو ثلاث.
2ــ هذه الخطوة لا يساندها قرار من الجامعة العربية.
3ــ إن هذه الدول التى اتخذت هذه الخطوة تعمل فى إطار مجلس الأمن وقراره.
4ــ أنهم على الأغلب سوف يرفضون المشاركة فى قذف أى أهداف ليبية احتراما لقرارات الجامعة العربية، وربما يكون لهذا تأثيره على مسلك الآخرين.
5ــ ضرورة الابتعاد بالكامل عن العمل العسكرى الأوروبى بصرف النظر عن أنه يتعلق فى ظاهره بتنفيذ قرار مجلس الأمن، لخطورة إمكانية انحرافه عن الأهداف المباشرة فى حماية المدنيين، وأن يبادر الأمين العام باتخاذ موقف صريح إزاء مثل هذا الانحراف.
قرار مجلس الأمن رقم 1973
أعود فأقول إنه فى مواجهة هذه الأحداث واستجابة للتهديدات المتواصلة ضد المدنيين التى ارتكبها القذافى، انعقد مجلس الأمن لمناقشة مشروع قرار تقدمت به بريطانيا وفرنسا ولبنان (العضو العربى فى مجلس الأمن) والولايات المتحدة يقضى بفرض منطقة حظر جوى على الأراضى الليبية لحماية المدنيين. عقدت أول جلسه لمناقشته يوم 15 مارس، ثم جلسة أخرى فى اليوم التالى، لكن بسبب حدوث انقسامٍ فى المجلس بشأن مشروع القرار فقد انفضت كلتا الجلستين دون التوصل إلى شيء.
فى النهاية أكد مجلس الأمن فى قراره 1973 مسئولية السلطات الليبية عن حماية الشعب الليبى وأدان الانتهاك الجسيم والمنتظم لحقوق الإنسان. وأذن المجلس للدول اﻷﻋﻀﺎء ﺑﺎﺗﺨﺎذ «ﺟﻤﻴﻊ التداﺑﻴﺮ اﻟﻼزمة» ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻟﻤدنيين والمناطق الآهلة ﺑﺎﻟﺴكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات فى ليبيا بما فيها بنغازى، مع استبعاد أى قوة احتلال اجنبية أيا كان شكلها وعلى أى جزء من الأراضى الليبية.
كانت عبارة «اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين» رغم أنها ذات مظهر سليم وصياغة معتادة إلا أنها مثلت فخا كبيرا استغلته عدد من الدول ذات المصالح فى ليبيا و(أو) لحسابات تريد تصفيتها مع النظام الليبى، ولأسباب تتصل بعلاقاتها بليبيا وبالنظام الليبى خارج إطار الجامعة.
توقفت كثيرا أمام تلك العبارة اللغم، التى تنص على «اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين» فى أثناء متابعتى لمجريات الأمور فى مجلس الأمن، وعبر اتصالاتى المستمرة مع المندوب الدائم لليبيا فى الأمم المتحدة عبدالرحمن شلقم. وهنا سأعرض ما ذكره شلقم فى كتابه الذى يحمل عنوان «نهاية القذافى.. ثورة 17 فبراير يوميات وأسرار وشهادات»، إذ قال بالنص ما يلى: «كان هناك شخصان احدهما حاضر وفاعل معنا هنا فى نيويورك هو السفير نواف سلام مندوب لبنان، وعضو مجلس الأمن، والممثل العربى بالمجلس، كان شبه مقيم معنا فى مقر البعثة الليبية، نناقش كل فقرة فى مشروع القرار 1973 بمشاركة السفير إبراهيم الدباشى، بل كنا نناقش كل كلمة تقريبا.
الشخص الغائب الحاضر هو السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول الدول العربية، الذى كان نصيرا عنيدا لثورة الشعب الليبى منذ انطلاقها، نراجع معه كل فقرات مشروع القرار، لقد وقفنا طويلا عند الفقرة رقم 4 التى أصررنا عليها أنا والسيد إبراهيم الدباشى، ووافقنا عليها مندوب لبنان السفير نواف سلام، واستطعنا أن نقنع بها سوزان رايس المندوبة الأمريكية.
تقول الفقرة الرابعة فى مشروع القرار: «يأذن للدول الأعضاء التى أخطرت الأمين العام، وهى تتصرف على الصعيد الوطنى أو عن طريق منظمات أو ترتيبات إقليمية، وبالتعاون مع الأمين العام، باتخاذ جميع التدابير اللازمة، رغم أحكام الفقرة 9 من القرار 1970 لسنة 2011 لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المعرضين لخطر الهجمات فى الجماهيرية العربية الليبية، بما فيها بنغازى، مع استبعاد أى قوة احتلال أجنبية أيا كان شكلها، وعلى أى جزء من الأراضى الليبية».
لقد أخذت هذه الفقرة الرابعة نقاشا طويلا مع عمرو موسى، الذى كان يعارض فى البداية وبشدة عبارة ــ اتخاذ جميع التدابير ــ متعللا أنها تفتح الباب للتدخل الأجنبى، وقف طويلا عند كلمة (جميع) التى تسبق كلمة (التدابير)، كنت أنا والدباشى نرى هاتين الكلمتين (جميع التدابير) هما طريق الإنقاذ والنجاة للشعب الليبى.
كنا ندرك أننا نسابق الوقت، بل نصارعه، لم تعد نوايا القذافى بالتوجه نحو بنغازى وتدميرها هواجس، أصبحت علنية، يتحدث بها القذافى وابنه سيف.. بعد نقاش عصبى تعالت فيه أصواتنا عبر الهاتف، تم الاتفاق مع عمرو موسى أن نضيف فقرة «مع استبعاد أى قوة احتلال أجنبية أيا كان شكلها، وعلى أى جزء من الأراضى الليبية».
هذه الفقرة الأخيرة هدأت من روع أمين عام الجامعة العربية، وكذلك مندوب روسيا، من طرفنا أصررنا على ذكر بنغازى تحديدا بالاسم؛ لأن تحرك القذافى نحو بنغازى كان معلنا.
كنا فى الجامعة العربية ننشد حماية المدنيين ونعمل على تحقيق ذلك بواسطة الأمم المتحدة، وقرار من مجلس الأمن يقر إقامة منطقة حظر جوى، وهو ما اقترحته رسميا عدد من الدول العربية ومنها دول خليجية، نمنع الطيران الليبى من قذف المدن الليبية والمدنيين، وهو ما كنت أراه أمرا مشروعا وضروريا، بينما كانت الدول الكبرى المحركة للقرار تهتم بالحصول على تصريح باتخاذ «جميع التدابير اللازمة» لذلك، لتعطيها التفسير الذى تراه وحتى تتمكن استخدامها بالشكل الذى تراه.
اجتماع باريس
الرئيس الفرنسى نيكولاى ساركوزى كان من أشد المدافعين عن اللجوء للخيار العسكرى فى ضرب قوات معمر القذافى متذرعا بحماية المدنيين، كما أثبتت الأيام التالية ذلك؛ ففى 10 مارس 2011 كانت باريس أول عاصمة تعترف بالمجلس الوطنى الانتقالى (NTC) الذى شكله قادة الثوار فى بنغازى يوم 27 فبراير من ذات العام، باعتباره، الممثل الشرعى والوحيد للشعب الليبى.
كما كانت تحركات الرئيس الفرنسى لافتة فى محاولة الحشد للتصويت على قرار من مجلس الأمن يجيز استخدام القوة ضد قوات معمر القذافى، بعد أن رأى أن الفرصة سانحة أمامه لإبراز فرنسا قوة كبرى فى العالم، كما أنه كان يريد التخلص من القذافى بسبب سياسة القذافى التى بدأت تجد لها موطئ قدم فى عدد من الدول الأفريقية الفرانكفونية. فضلا عن أن سيف الإسلام القذافى طالبه برد الأموال التى تقاضاها من ليبيا فى تمويل حملته فى انتخابات الرئاسة الفرنسية، وهدده بعرض التفاصيل والوثائق.
دعا ساركوزى إلى اجتماع فى باريس يوم 19 مارس 2011 سماه القمة الأوروبية العربية الأفريقية بحضور شخصيات دولية كبيرة، أذكر منها: الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، رئيسة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى كاثرين أشتون، رئيس الوزراء الاسبانى خوسيه لويس ثاباتيرو، المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، رئيس الوزراء القطرى الشيخ حمد بن جاسم، رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون، وزير الخارجية الإماراتى عبدالله بن زايد، وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، وزير الخارجية الاردنى ناصر جودة، وزير الخارجية المغربى الطيب الفاسى الفهرى. وهوشيار زيبارى وزير خارجية العراق، وآخرين.
تم تخصيص هذه القمة التى استمرت ساعات قليلة لمناقشة كيفية التعامل مع الوضع فى ليبيا فى ضوء قرار مجلس الأمن 1973 القاضى بفرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا حماية للمدنيين الليبيين.
لقد رأيت مقاطعة هذا الاجتماع إذ بدأت تساورنى الشكوك فيما يخص نوايا الدول الغربية وعلى رأسهم صاحب الدعوة، فجاءنى عبدالإله الخطيب ــ وزير الخارجية الأردنى الأسبق وكان قد تم تعيينه ممثلا للأمم المتحدة فى ليبيا اعتبارا من 7 مارس 2011 ــ ليطلب منى حضور ذلك الاجتماع، وكنا فى اليوم السابق على استفتاء تعديل دستور 1971 الذى أجرى يوم 19 مارس 2011 فى مصر.
قالى لى الخطيب: هذا اجتماع مهم ويجب أن تكون موجودا فيه؛ لأن الأمم المتحدة ستكون موجودة، والاتحاد الأوروبى سيكون موجودا، وبإمكانك تسجيل موقفك أمام هذه القوى الدولية. وافقت على الحضور بعد نقاش طويل استمر إلى ساعة متأخرة من المساء؛ فأجرى الخطيب اتصالاته، وأبلغنى أن فرنسا سترسل طائرة خاصة لتقلنى إلى باريس وتعيدنى إلى القاهرة فى ذات اليوم.
قلت له: غدا سأدلى بصوتى فى الاستفتاء على تعديل الدستور وسأصوت بـ«لا».
قال: الطائرة ستكون موجودة فى مطار القاهرة الساعة التاسعة صباحا.
أدليت بصوتى فى مدرسة بشارع قصر العينى فى الساعة الثامنة، ومنها توجهت إلى المطار متوجها إلى باريس. وصلت مقر الاجتماع وأخذت مقعدى بعد أن سلمت على الجميع الذين كانوا وقوفا يتسامرون، بدأ ساركوزى إلقاء كلمته التى من ضمن ما جاء فيها: «ستعارض القوات الجوية الفرنسية أى اعتداء من قبل طائرات القذافى ضد سكان بنغازى.
وبالفعل طائراتنا تمنع الهجمات الجوية على هذه المدينة. وهناك طائرات فرنسية أخرى مستعدة للتدخل ضد العربات المدرعة التى تهدد المدنيين العزل.. اليوم، نحن نعمل فى ليبيا تحت ولاية مجلس الأمن مع شركائنا، بما فى ذلك شركاؤنا العرب. ونقوم بذلك من أجل حماية السكان المدنيين من جنون النظام القاتل الذى فقد شرعيته كاملة عن طريق قتل شعبه.. نتدخل للسماح للشعب الليبى لتحديد مصيره».
استفزتنى كلمة ساركوزى لأبعد حد؛ لأنه تحدث صراحة عن تجاوز مسألة فرض حظر جوى على قوات القذافى الذى أقره قرار مجلس الأمن رقم 1973؛ ذلك أنه تحدث بشكل صريح عن استعداد قواته الجوية لضرب قوات القذافى على الأرض عندما تحدث عن العربات المدرعة، بالإضافة إلى أنه أعلن صراحة عن نيته بالعمل على تغيير نظام القذافى الذى وصفه بأنه «فقد شرعيته كاملة»، وهو أمر لم يشمله قرار مجلس الأمن المشار إليه، فهذا شأن يقرره الشعب الليبى وحده.
عند هذه اللحظة بدأت أشك فى أن الامر سيتجاوز مسألة حظر الطيران إلى ضرب ليبيا بالطائرات. وهنا أود أن أستطرد مشيرا إلى ما ذكرته لى كاترين اشتون بعد ذلك الحدث بسنوات (لندن فى صيف 2018 ثم فى صير بنى ياس فى نوفمبر من نفس السنة) من أنها كانت فى غاية الحرج لوجودها فى هذا الاجتماع الذى تقرر فيه أمور عسكرية تخرج عن نطاق سياسة الاتحاد الأوروبى، وأنها لا حظت على وجهى شخصيا ووجه بان كى مون نفس الشعور بالحرج وعدم التناسق مع باقى المجتمعين غربيين كانوا أم عربا.
بعد أن انتهى الرئيس الفرنسى من كلمته قال: أعطى الكلمة للسيد الأمين العام.
يبدو أنه كان يقصد بان كى مون، لكن من فرط غضبى ورغبتى فى الرد على كلمته اعتبرت أنه يخاطبنى أنا أمين عام الجامعة العربية، وبان كى مون لم يعلق، فألقيت كلمتى التى أكدت فيها على أن «قرار مجلس الأمن الدولى رقم 1973 بشأن ليبيا يهدف إلى حماية المدنيين، ولا يؤيد أى غزو لذلك البلد العربى المستقل وصاحب السيادة، وطلبت من كل الاطراف المجتمعة عدم الذهاب إلى أبعد من منطوق قرار مجلس الأمن الصادر فى 17 مارس 2011 الذى قيد العمليات العسكرية على الأراضى الليبية فى حظر جوى على قوات معمر القذافى.
وأعدت التأكيد على أن الهدف من قرار مجلس الأمن المشار إليه هو حماية المدنيين الليبيين فقط، وأن هذا القرار لم يمنح أى طرف شرعية لغزو أو احتلال ليبيا، وأن نص هذا القرار واضح فى هذه النقطة. كان واضحا أننى مملوء بالغضب، ومن ثم توجهت إلى الممثلين العرب فى الاجتماع؛ فقال لى حمد بن جاسم: الموضوع خلص يا أخ عمرو.
القصف الحرام
لم يمض الكثير من الوقت حتى تأكدت شكوكى بشأن أن مسألة المدنيين كانت حصان طروادة للإطاحة بالقذافي؛ ففى نفس يوم اجتماع باريس (19 مارس 2011) وقبل أن أصل القاهرة عائدا من العاصمة الفرنسية، وربما قبل ذلك بدأت طائرات حربية فرنسية قصف مواقع ليبية أرضية دفاعية. بعد متابعة هذه الأخبار عن العمل العسكرى الذى يجرى على الأراضى الليبية تأكدت مرة أخرى أننا تعرضنا لخديعة، وأن ما يتم بالفعل من أعمال حربية قد تجاوز قرار مجلس الأمن 1973، الذى يقضى فقط بفرض منطقة حظر جوى على الأراضى الليبية للحيلولة دون قيام القذافى بضرب المدنيين المعارضين له.