وطنا اليوم:حين سافر الإيراني “مهران كريمي ناصري” من بلجيكا حيث يقيم متجهاً إلى إنجلترا، كان عليه أولاً الهبوط في مطار شارل ديغول في فرنسا ليستقل طائرة أخرى إلى وجهته الأخيرة لندن.
ولم يكن يخطر بباله أن رحلته من باريس إلى لندن التي تستغرق بالعادة ساعة واحدة فقط، سوف تستغرق ما يقرب من 18 عاماً، وسيكون حبيساً في مطار شارل ديغول في فرنسا طول تلك المدة، وأن قصته ستتحول لفيلم من بطولة توم هانكس.
السفر من إيران إلى بريطانيا وبداية المحنة
ولد “ناصري” في إيران عام 1942 من أب إيراني وأم من أصول بريطانية، وحين وصل المرحلة الجامعية، قرر السفر لإكمال تعليمه في جامعة “برادفورد” في إنجلترا عام 1974، وأثناء سنوات دراسته هناك، كانت إيران تشهد ظروفاً سياسية مضطربة وحكماً قمعياً من أجهزة الدولة في ظل حكم الشاه.
وكانت تحدث في إنجلترا أحياناً، مظاهرات احتجاجية تقوم بها الجالية الإيرانية أو الطلاب الإيرانيون في إنجلترا ضد شاه إيران، اعتقد “ناصري”، لأنه كان في إنجلترا، أن السلطات الأمنية في إيران لن تعلم بما يحدث، فقرر أن يشارك في تلك المظاهرات، وكان هذا القرار الذي سيقلب حياته رأساً على عقب.
عندما عاد إلى إيران بعد 3 سنوات عام 1977، علم أن عملاء إيرانيين في إنجلترا، صوروه وهو يسير في احتجاج ضد الشاه، وكانت السلطات الأمنية في انتظاره، وقُبض عليه وسُجن لمدة 4 أشهر، وبعد إطلاق سراحه من السجن، قرر مغادرة إيران والسفر بحثاً عن وطن جديد.
سافر ناصري إلى أوروبا، ولعدة سنوات حاول طلب اللجوء من عدة دول في جميع أنحاء أوروبا تقريباً، وتلقى ناصري قرار الرفض من جميع الدول التي ذهب إليها، وبعد معاناة وتنقل مستمر من دولة لأخرى تنفس الصعداء بعد أن منحته بلجيكا صفة لاجئ.
رجل دون بلد بسبب ضياع الحقيبة
بعد أن حصل على صفة اللجوء من بلجيكا، ونظراً لأن “ناصري” كان أكثر دراية بإنجلترا، حيث أمضى سنوات دراسته هناك، قرر عام 1988 السفر إلى إنجلترا والاستقرار هناك، وهو قرار سيندم عليه طول عمره.
في رحلته إلى إنجلترا كان عليه الهبوط في فرنسا، وركوب طائرة ثانية متجهة إلى لندن؛ لأنه لم تكن هناك رحلات مباشرة من بلجيكا إلى لندن.
اشترى ناصري التذاكر وانطلقت طائرته من بلجيكا إلى فرنسا، وكان كل شيء يسير بلا مشاكل حتى هذه اللحظة، بعد وصوله إلى مطار شارل ديغول الدولي في فرنسا، استقل طائرة إلى مطار هيثرو في لندن، وفور هبوط الطائرة في مطار لندن بدأت محنته الجديدة.
اكتشف “ناصري” أنه أضاع حقيبته التي تحوي أوراقه الرسمية، فقبضت عليه السلطات البريطانية وأعادته إلى باريس مرة أخرى.
ولأنه لم يكن يملك أية أوراق رسمية تثبت هويته، لم تسمح له السلطات الفرنسية بدخول أراضيها، ولم تقبل السلطات البلجيكية استقباله أيضاً للسبب نفسه.
لم يكن لدى الفرنسيين دولة يستطيعون إرسال ناصري إليها، باختصار لم يتمكنوا من إرسال ناصري إلى إيران، أو بلجيكا أو إعادته لإنجلترا، ولم يكن لديه الأوراق اللازمة للمغادرة لداخل فرنسا أيضاً، وأصبح “ناصري” الآن رجلاً دون بلد.
بيروقراطية أضاعت سنين عمره
استقر ناصري في صالة الانتظار رقم 1، وكان ينام على كراسي المطار، في البداية كان يبدو ببساطة واحداً من أولئك المسافرين الذين تأخرت طائرتهم.
ولعدة أيام كان يطلب الطعام من المطاعم الموجودة في المطار، وساعده موظفو المطار مشفقين على حالته، وكان “ناصري” يستحم في مرحاض المطار.
لكن الأيام تحولت إلى أسابيع ثم إلى شهور، فطفح به الكيل وقرر أن يحاول محاولة يائسة، نظراً لأنه كان يعتقد أن شراء تذكرة أخرى هو الحد الفاصل بين بقائه في المطار وكونه رجلاً حراً، بدأ في طلب المساعدة المالية من المسافرين، وبعد عامين استطاع جمع سعر التذكرة، وعبور الممر المؤدي إلى الطائرة، ولكنه قبض عليه وسُجن 6 أشهر، ثم أُعيد مرة أخرى إلى صالة الانتظار.
سمع محامي حقوق الإنسان الفرنسي “كريستيان بورجيه”، بقصة ناصري وقرر مساعدته، لتحديد وضعه القانوني ومساعدته على السفر إلى لندن، وبعد الترافع في المحاكم الفرنسية لمدة 4 سنوات، قضت المحكمة أخيراً بأن “ناصري” دخل المطار بشكل قانوني كلاجئ ولا يمكن طرده منه.
لكن لم تتمكن المحكمة من منح “ناصري” تأشيرة مؤقتة أو منحه وضع لاجئ، لأنهم لم يكن لديهم السلطة للقيام بذلك، ولم تستطع المحكمة إجبار الحكومة الفرنسية على السماح له بالخروج من المطار إلى الأراضي الفرنسية.
فكان المكان الوحيد الذي يُمكنه البقاء فيه هو مطار “شارل ديغول الدولي” في فرنسا.
وقال بورجيه: “إن السلطات الفرنسية رفضت في الواقع منح ناصري إما تأشيرة لاجئ أو تأشيرة عبور. كانت بيروقراطية محضة”.
قرر المحامي بعد ذلك التوجه لبلجيكا، وبعد مراسلة السلطات هناك، وبعد 7 سنوات من محاولة الحصول على أوراق ثبوتية جديدة، كان رد السلطات البلجيكية أنها تستطيع إصدار الوثائق اللازمة التي تثبت هوية “ناصري” ووضعه القانوني، لكن لن يتمكنوا من إرسالها بالبريد أو تسليمها للمحامي؛ لأن هذه الوثائق مهمة للغاية، وعلى “ناصري” القدوم واستلامها باليد.
والمفارقة أن السلطات البلجيكية في الوقت نفسه لن تسمح بدخول “ناصري” إليها دون أوراقه الثبوتية.
انهيار نفسي وعقلي بسبب الانتظار
بعد سنوات طويلة من الانتظار، استطاع المحامي في عام 1999، الحصول على أوراق ثبوتية مؤقتة من السلطات البلجيكية، تُمكّن “ناصري” من الحصول على تصريح بالبقاء في فرنسا، والمثير للدهشة أنه بمجرد حصوله على الوثائق، رفض استلامها لأنه اعتقد أنها مزورة، وأنه بمجرد خروجه من باب المطار ستقوم الشرطة الفرنسية بقتله، لذلك قرر البقاء في المطار.
في تلك المرحلة، اعتقد المسؤولون في المطار أن ناصري أصيب بالجنون من كل السنوات التي قضاها داخل المطار دون أن يستطيع الخروج، تدهورت حالته أكثر وأصبح لا يعرف من يكون.
ادعى أنه رجل إنجليزي، ثم أصبح يقول إنه من أصل سويدي من طبقة النبلاء واسمه “السير ألفريد”، ولم يكن يجيب من يخاطبه باسمه الإيراني.
قررت السلطات الفرنسية منحه أوراقاً للدخول إلى أراضيها بعد تدهور حالته، لكنه رفضها أيضاً، لأنها لم تكن تحتوي اسمه “السير الفريد”، ولأنه لا يعرف أي أحد يحمل اسم “مهران كريمي ناصري”.
قال الدكتور “فيليب بارجين” المدير الطبي للمطار: “إنه كان خائفاً من مغادرة فقاعة عالمه الذي كان يعيش فيه، وكان الحصول على الأوراق بمثابة صدمة كبيرة له، عندما تنتظر 11 عاماً لشيء ما وفجأة في غضون بضع دقائق، تقوم بالتوقيع على بعض الأوراق ويتم ذلك! تخيل مدى هذه الصدمة. يجب أن يُفطم من المطار، إنه مثل المدمن حقاً، ومع ذلك فإنه يجعلك تتساءل عن نوع المجتمع الذي نعيش فيه، ويمكن أن يحدث هذا للرجل”.
القصة التي ألهمت فيلم توم هانكس “The Terminal”
كانت حياة كريمي ناصري مصدر إلهام لكثير من الروايات والأفلام الأجنبية. أحد تلك الأفلام، فيلم “The Terminal” عام 2004، للمخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ، وبطولة توم هانكس.
حصل “ناصري” على 300 ألف دولار مقابل حقوق تصوير قصته، ورغم ذلك كان لا يزال يعيش في المطار ولا يستطيع مغادرته.
نهاية رحلة استغرقت 20 عاماً
في 2006، وبعد 18 عاماً من بقائه في المطار أصيب ناصري بوعكة صحية شديدة تم نقله على إثرها إلى المستشفى خارج المطار، برعاية فرع الصليب الأحمر الفرنسي، وبعد بقائه عدة أشهر في المستشفى وتحسن حالته الصحية والعقلية، غادر المستشفى أخيراً في 2007.
سمحت له السلطات الفرنسية بالبقاء في فرنسا، ونُقل إلى مأوى للمشردين في باريس، لكنه استخدم المال الذي حصل عليه للسفر، وإكمال رحلته إلى بريطانيا التي بدأها قبل 20 عاماً، ونهاية معاناته مع البيروقراطية التي سلبت منه حياته.