وطنا اليوم – اقامت مؤسسة فريدريش إيبرت بالتعاون مع معهد السياسة والمجتمع ندوة عبر تطبيق Zoom ناقشت فيها الكتاب الذي نشره مؤخرا نائب رئيس الوزراء الأسبق جعفر حسان والذي حمل عنوان: “الاقتصاد السياسيّ الأردنيّ: بناء في رحم الأزمات”، مما يزيد من قيمة الكتاب أن مؤلفه هو أحد المسؤولين البارزين سابقا، فقد عمل مديرا لمكتب الملك (2014-2018)، واستلم حقيبة وزارة التخطيط، وأصبح نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للشؤون الاقتصادية، بالإضافة إلى خبرته العملية فهو حاصل على أكثر من شهادة ماجستير ودكتوراه من جامعات مشهورة، مثل بوسطن وجنيف وهارفارد.
فالحديث ليس فقط عن رجل تنفيذي أو مسؤول مر مرور الكرام على موقع القرار بلا أثر؛ بل شخصية كانت “مؤثرة في المطبخ”، وفي صناعة السياسات الأردنية خاصة في المجال الاقتصادي، الذي يقترب منه.
وقع حسان، في مغالطات صارخة، فرغم إقراره بأن الاقتصاد الأردني نشأ كاقتصاد اتّكالي، ولم يتحوّل بعد إلى اقتصاد إنتاجي، إلاّ أنّه دافع عن هذه النشأة معتبرا إيّاها حالة اضطراريّة أرغم عليها الأردن لمواجهة ما وصفه بالأزمات الأمنيّة و”الوجوديّة”، كما ألقى باللوم على الجغرافيا فيما يتعلّق بالعجز المستمرّ عن التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي مستقلّ، حيث علّق هذه الخطيئة على شمّاعة الأزمات الإقليميّة!
المشكلة الأبرز في مداخلته أن الرجل دافع بشراسة عن نهج الخصخصة، معتبرا إيّاه ضرورة لا بدّ منها لدخول عالم العولمة، متمسّكا بحجّة عدم القدرة على الانغلاق على الذات والانعزال عن الاقتصاد العالمي، ما يعني وفقا لما يمكن استنتاجه من هذا التحليل، “حتميّة” تكريس حالة التبعيّة للمراكز الاقتصاديّة الأجنبيّة.
الأزمات الإقليميّة المستمرّة منذ عقدين من الزمن، كان الأجدى بها أن تكون عاملا محفّزا على نحو حاسم لتعزيز إرادة التحوّل إلى دولة إنتاجيّة، والتخلّص من الارتهان للأجنبي، الذي كانت هيمنته على اقتصادات دول الجوار هي السبب الرئيسي في اشتعال الأزمات فيها.. الخبير الاقتصادي حسان يفترض أن يعرف جيّدا أن من يتحكّم باقتصاد الدول يمتلك مصيرها، وأنّه لا توجد “مساعدات” دون مقابل قد يصل إلى الكينونة بحدّ ذاتها!
الارتهان إلى المساعدات الأجنبيّة، وعجز الساسة الذين كرّسوا هذه التبعيّة، هو السبب الجوهري في عدم التحوّل إلى دولة إنتاجيّة، عوضا عن الاعتراف بذلك قرّر المؤلّف إلقاء اللوم على الأزمات، التي كانت نتيجة لذات الارتهان للنفوذ الخارجي!
أمّا فيما يتعلّق بدفاعه عن نهج الخصخصة، فهو بصراحة اعتراف ضمني بارتياحه لمسألة الارتهان إلى الخارج، وقطع الطريق تماما على أيّة محاولة للنهوض والتقدّم إلى مستوى الدول المنتجة، فماذا تبقّى بعد بيع كلّ مقدّرات الدولة، ورهن البلاد بالمطلق للمستثمر الأجنبي؟!
الدولة بعد أن فقدت كلّ مقدّراتها، وجفّفت مصادرها، لجأت إلى جيوب الناس باعتبارها مصدر الدخل البديل عن تلك المساعدات، وبات الطريق مسدودا بالكامل أمام بناء أيّ شكل من أشكال الاقتصاد الوطني المستقلّ بعد استعار فاتورة الطاقة، وبالتالي تفاقم الفقر من جهة، وتجذّرت التبعيّة من جهة أخرى.. ومازال المؤلّف يعتبر هذا النهج خطوة على الطريق الصحيح، ويلقي بمسؤوليّة الفشل على ظهر موقع الأردن الجغرافي!!
بصراحة، لا يمكن حتّى تخيّل إمكانيّة التحوّل إلى دولة الإنتاج عبر الضغط على الناس وإرهاقهم بالجباية المستعرة.. الاعتماد على الذات يستوجب قبل أيّ شيء آخر بناء بنية تحتيّة استثنائيّة، وتوفير مصادر رخيصة للطاقة.. غياب الإرادة وليست الأزمات هو العامل الحاسم في عدم تحقّق هذا الأمر.
الشيء الإيجابي الوحيد الذي طرحه حسّان في مداخلته كان تسليط الضوء على عدم عدالة اللجوء إلى رفع ضريبة المبيعات، مقابل ثبات ضريبة الدخل منذ عقود، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لم يعمل صاحبنا على تحقيق ذلك عندما كان في السلطة، سواء حين كان مديرا لمكتب الملك أو عندما شغل أهم المناصب الحكوميّة الاقتصاديّة.
مغالطة أخرى وقع فيها حسان عندما حاول تبرير العودة إلى برنامج صندوق النقد الدولي، ملقيا باللوم في ذلك على الربيع العربي وأزمة الطاقة وعبء اللاجئين..
التجربة المريرة من صندوق النقد أثبتت على مدى سنوات وفي كثير من الدول استحالة الخروج من النفق المظلم عبر وصفات هذه المؤسّسة وإملاءاتها.. المديونيّة استمرّت بالارتفاع بشكل جنوني، وتفاقمت الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بسبب هذه الإملاءات.. حتّى البنى القيميّة تمّ تفكيكها.. الفجوة الطبقيّة اتّسعت إلى درجة مخيفة، وتعمّق الشرخ حتّى ابتلع الطبقة الوسطى، ودخلت البلاد في دوّامة عجز لانهائيّ.. ورغم مرارة تلك التجربة، يصرّ الرجل على اعتبار العودة إلى برنامج هذا الصندوق بمثابة هبوط اضطراري!
غريب كيف يمكن اعتبار السبب الجوهري للأزمة هو الحلّ للخروج من نفقها.. هذه الآليّة التي يفكّر وفقها رجالات السلطة، والتي عبّرت عنها مداخلة حسّان، لا يمكن لها أن تنسجم مع أبسط قواعد المنطق البسيط.. ورغم هذا مازالت هي السائدة والمهيمنة على جهاز الدولة الاقتصادي؟!
الحديث عن التحوّل إلى دولة إنتاج لا يمكن أن ينسجم مع الالتزام بإملاءات المؤسّسات الماليّة الدوليّة.. فلا يمكن لأي قطاع أن يتنفّس في ظلّ الرفع المستمرّ لأسعار فواتير الماء والكهرباء، ولا يمكن للمواطن أن يتلمّس طريقه للنجاه من دوّامة الفقر والفاقة، في ظلّ رفع الدعم عن كافّة السلع الأساسيّة، ومحاربته في رغيف الخبز!
الطبقة التي تكرّست في السلطة مازالت تفكّر بهذا المنطق الغريب، الذي يدفعها إلى الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي رغم كلّ الويلات التي مازالت البلاد تعانيها بسبب برامجه الكارثيّة، التي تكرّس التبعيّة، وتصادر أيّ أمل في الإصلاح الاقتصادي الحقيقي.
ترحيل الأزمات إلى فترات قصيرة، ومن ثمّ تعميقها وتجذيرها هو ما كان يحكم عقليّة المطبخ الاقتصادي، الذي مازال حسّان يتحدّث بلغته، ويستخدم منطقه الغريب في الدفاع عن السياسات الخاطئة، وإلقاء اللوم على الربيع العربي!
هذه القراءة الأوليّة لمداخلة حسّان حول كتابه تسلّط الضوء على أبرز ما وقع فيه من تناقضات، لكن ستكون لنا وقفة جديدة للتركيز على ما يقترحه من حلول للخروج من الأزمة، لتناول الفصلين الثالث والرابع من كتابه، فلربّما كان لديه تصوّر ما يسهم في وضع النقاط على الحروف.